الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محاكمة الأخضر الابراهيمي

محاكمة الأخضر الابراهيمي

09.11.2013
د. عبدالوهاب الأفندي



القدس العربي
الجمعة 8/11/2013
(1) يحق لنا معشر العرب أن نفخر بوصول عدد من الشخصيات العربية إلى مواقع دولية متميزة، خاصة حين يتعلق الأمر بخدمة قضايا السلام والعدل. فحين يبلغ العربي منزلة أن يتأهل لمنصب أمين عام المتحدة، كما كان شأن بطرس غالي في مطلع التسعينات، فهذه علامة أن العرب أصبحوا جزءاً من الحضارة الحديثة وفي قلبها.
(2)
ولم يتقلب عربي في المناصب الدولية الرفيعة مثل الدبلوماسي الجزائري المخضرم، الأخضر الابراهيمي. فقد شغل مناصب عدة في الجامعة العربية كان من أهمها مهمة المبعوث إلى لبنان في عام 1989، حيث ساهم في إنهاء الحرب الأهلية هناك. كما شغل مهام المبعوث او الممثل الأممي في جنوب افريقيا وهايتي وأفغانستان والعراق، قبل أن يجمع الحسنيين مع نهاية العام الماضي فيصبح مبعوثاً للجامعة العربية والأمم المتحدة معاً في سورية منذ اب/أغسطس من العام الماضي.
(3)
هناك بالطبع جانب آخر للحضور العربي الدولي، وهو أن ‘الحاضرين’ لا بد أن يعبروا عن طريق أنظمة قمعية في حالة حرب دائمة مع شعوبها. وهكذا نجد كلا من الابراهيمي وغالي قد صعدا في سلم هذه الأنظمة عبر سلكهما الدبلوماسي من القاعدة إلى القمة، وهو مرقى صعب لا بد أن ينغمس فيه المسؤول في بنية النظام ويظهر السمع والطاعة حتى يبلغ القمة. يضاف إلى ذلك أن كلا الرجلين خدم نظامه على مستوى رفيع في أسوأ عهوده، حيث تولى غالي وزارة الخارجية (بدرجة وزير دولة) في عهد كامب دايفيد، وما أدراك ماهو. أما الابراهيمي فقد تولى الخارجية في عهد الانقلاب على الديمقراطية وبداية سفك الدماء الجزائرية بصورة ذكرت بأيام المليون شهيد، ولم نسمع منه إدانة لتلك الجرائم أو اعتذاراً عنها.
(4)
ليس هذا في حد ذاته مشكلة كبرى، فقد ‘يتخرج’ مسؤول من نظام قمعي، ثم يتحرر من إساره وينطلق إلى الأمام بعد أن كان مكبلاً بقيوده. ولكن هذا هو بالضبط ما لم يحدث في حالة ‘ممثلينا’ العرب. فلكل من غالي والإبراهيمي مواقف مسجلة عن عدم صلاحية الديمقراطية للشعوب العربية. وقد كان غالي حتى آخر لحظة ضد ثورة الشعب المصري في 25 يناير، وواصل التبشير بالعودة إلى العبودية. ولكن حتى لو تجاوزنا عن هذه المواقف بحجة أنها لا تنعكس على مهامهم الدولية، فإن للقصة بقية.
(5)
المدهش في حالة المسؤولين الدوليين العرب هو فقدان الحساسية تجاه الجرائم ضد الإنسانية مهما بلغ حجمها. وهكذا نجد بطرس غالي كان متحمساً لنظام منغستو الدموي في اثيوبيا رغم جرائمه، كما أنه اتخذ مواقف مخزية تجاه مجازر الصرب في يوغسلافيا. فلم تقتصر المشكلة على التقصير في الواجب المتمثل في حماية المدنيين بحسب المهمة الموكلة له، بل بلغ به الأمر الاستخفاف بمعاناة من كانوا في حمايته. فحين سأله بعض الصحافيين عن حصار سربرينتسا التي قتل فيها ثمانية آلاف شاب ورجل بدم بارد لم تكن إجابته سوى أن قال باستخفاف ونزق: لم كل هذا الاهتمام بقرية في أوروبا؟
(6)
لم يختلف الابراهيمي كثيراً عن صاحبه، حيث ظل باستمرار يتحدث بكثير من اللامبالاة عن الفظائع التي ترتكب في سوريا. فهو نادراً ما يدين الفظائع، وعندما تحدث عن الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق وصفه بالهجوم ‘المزعوم’. وبالطبع ماذا ينتظر أكثر من ذلك ممن سكت عن مقتل مائة ألف جزائري (‘مزعوم’ طبعاً) قد يكون بعضهم جيرانه وأقاربه، وساهم في ذلك؟
(7)
ما يحسب لصالح بطرس غالي أنه لم يدع يوماً راديكالية، ولم يعترض على كامب دايفيد أو غيرها من وثائق الاستسلام. فهو من أهل الولاء والطاعة لكل من هو في السلطة، وإن كان خرج بادعاءات لا أساس لها حول أن معارضة القوى الكبرى للتجديد له لولاية ثانية في أمانة الأمم المتحدة سببه مواقفه البطولية ضد الغرب، وليس قلة كفاءته وقلة فهمه للسياسة، فضلاً عن نصيبه المتواضع من الحس الأخلاقي! أما الإبراهيمي فإنه كان يدعي ونظامه الجزائري الثورية و ‘الممانعة’ والصمود والتصدي، وإن كان هذه لم يمنعه من أن يخدم في أفغانستان والعراق تحت حراب الاحتلال في وظيفة ‘حركي’ دبلوماسي.
(8)
من أبسط قواعد النظام الدولي الذي قام في عصر ما بعد سقوط النازية، وكانت عبرة فظائع ذلك النظام ماثلة في أذهان مهندسيه أن الإبادة الجماعية إثم عظيم يخرج صاحبه من حظيرة الإنسانية، ولا توبة لصاحبه ولا قبول. ولا يمكن أن يكون هناك تفاوض مع مرتكبي هذه الكبائر. ولكن الإبراهيمي ظل يفهم دوره على أساس أنه دور ‘المحلل’، والقائم على إعادة المعارضة إلى بيت الطاعة، وكأن حياة الملايين لم تدمر تماماً خلال الأعوام الماضية!
(9)
عندما يحين موعد محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، سيكون من العدل أن يمثل الإبراهيمي أمام تلك المحاكم ليساءل عن الدور الذي لعبه وما يزال في توفير غطاء لتلك الجرائم، وإعطاء القوى الكبرى ‘ذريعة تغيب’. فهو حين يتظاهر بأنه يؤدي دوراً لإحلال السلام وإنهاء الحرب، وهو يعلم قبل غيره (وإن كان لا يعلم فالمصيبة أعظم) أن جهوده ليست سوى مضيعة للوقت والمال (إلا بالنسبة له، لأن مغانمه من هذه المهزلة عظيمة)، فهو بذلك يساعد مرتكبي الجرائم، ويؤخر إيقاف الحرب. ذلك أنه لو أعلن بصراحة فشله واستقال لأتاح الفرصة لمن هم أقدر على حسم الأمر بما ينبغي. وبالتالي فهو مسؤول عن كل جريمة تقع منذ تعيينه وحتى استقالته، أو إقالته، المحتومة. وهو بالتالي يستحق أن يواجه هذه المسؤولية ويؤدي ما عليه تجاهها.