الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محاكمة حلف الممانعة

محاكمة حلف الممانعة

27.01.2014
غازي دحمان


المستقبل
الاحد 26/1/2014
ما يجري، من لاهاي إلى جنيف، ليس سوى محاكمة حلف الممانعة، من طهران إلى دمشق فبيروت، هي محاكمة لنمط وسلوك وقيم وسياسات حاول الحلف فرضها وتوطينها في منطقة جنوبي البحر المتوسط، في سوريا ولبنان تحديداً، ومحاولة نقلها إلى فلسطين أو جزء منها.
منصات المحاكمة تتوزع على دافوس وجنيف ولاهاي، وفي عواصم القرار الكبرى، بعد أن تجمعت خيوط القضايا واكتملت أنصبتها، والأهم بعد أن انهارت قدرة الحلف في السيطرة على البيئة الاجتماعية، التي مورست عليها سياسات الحلف وممارساته، ذات الطابع الإجرامي العنفي.
مقدمات المحاكمة بدأت يوم تم ضبط نظام بشار الأسد متلبسا بجريمة قتل أطفال سوريا خنقاً (الكيماوي)، يومها سعت العصابة إلى التخلص من دليل المحكمة، فوافقت على تسليم أداة القتل لعل القاضي يغض النظر عن سلة الجرائم التي فاضت. كانت محاولة لإنقاذ القاتل ولفلفة الجريمة، لكن من ينقذ قاتلاً أجرى الدم أنهاراً في بلاده!
مقدمات تلك المحاكمة أيضاً، بدأت مع رضوخ إيران لضغوط المجتمع الدولي، ورغبتها في الانخراط باقتصاده المعولم والاستفادة من مزاياه والابتعاد عن تجرع الكأس المرة للعقوبات، والتي أثمرت تمرداً، وحركة احتجاجية، وثورة بدأت تلوح في الأفق. حاول نظام طهران قطف المزايا والتخلص من الأزمات، لكن من قال أن العالم جمعية خيرية ؟
في لبنان كان حزب السيد قد استمرأ لعبة الدم، ما دامت تصلح لإزاحة الحلفاء وما دامت تتيح له تشكيل المجال السياسي اللبناني وفق هواه، لكن معطيات المرحلة دفعت بالحزب إلى توسيع عمله وفق تلك القاعدة. فبعد إزاحة أخصامه المحليين، وجد الحزب لديه الإمكانية والمجال للقيام بتوسيع مدى سياساته الاضطهادية في الإقليم، لوقف انهيارات حلفائه ومنع إمكانية تفكك الحلف القاتل الذي يستظل في فيئه. لكن الحزب فاته القيام بعملية تطهير واسعة لجبهات الحقيقة المنتفضة ضده في لبنان، من قال أنه يستطيع إخراس صوت الحقيقة في لبنان؟
من جنيف إلى لاهاي تنتصب المحاكم، ويقف القتلى شهودا، ومحامو دفاع يعلنون ثورتهم في وجه قتلتهم، فهم مادة الإدعاء، وهم شهود القضية، وهم المساجلون عن حقهم وعن دمهم المهدور، كل نقطة دم أريقت في لبنان وسوريا تنفر سيلاً من التهم، كل لحظة اضطهاد وتجويع وقهر على الأرض الإيرانية تشكل عبئاً ثقيلاً، ينيخ تحته رجال الخامئني، دبلوماسيه وحرسه الثوري. من أخبرهم أن نداء الحرية تيبس في عروق شعب إيران؟
العالم تغير، يختلف كل يوم عن الذي سبقه، أنماط التفكير تتغير، طرق التفاعل تتغير، ومعها تتغير الوقائع في حركة انقلابية هائلة، وحزب الممانعة بقي عند اللحظات التأسيسية الأولى، عند حادثة اغتيال كمال جنبلاط وسليم اللوزي والتآمر على "الحركة الوطنية اللبنانية" وحصار تل الزعتر، ومع كل ذلك الخضوع لإسرائيل والاكتفاء بمحاربتها لفظياً، وطلب الود الدائم من أميركا، وانتظار توظيفه بالأدوار القذرة، من السيطرة على لبنان إلى السماح بمد النفوذ والسيطرة على الخليج.
وكان الحلف قد صنع معادلاً موضوعياً لنمطه السياسي على الأرض، تمثل بوجود رافعة اجتماعية وثقافية له. وهذه جرى إستبطانها وتعميقها في وعي شرائح تنتمي لمختلف المكونات، لكنها شكلت المادة الأساسية لخراب تلك المجتمعات، وتعفن روحها، وعجزها عن الخروج من شرنقة الأزمات المتكاثرة على كل الصعد.
إن المحاكمة تجري اليوم على جسد منهار، رغم قدرته المستمرة على القتل لكنه بات هيكلاً منخوراً في طريقه إلى التصدع، لن تفعل المحاكمة سوى نشر عفنه والتعجيل في تعطيل ماكنات الموت فيه، ذلك ان الحلف ورغم ما يظهره من تماسك على سطحه، إلا أنه في العمق بات ينطوي على فراغ مخيف، ذلك ان تورطه المستمر في الدم وتوريطه للمكونات الأهلية في الحرب، جعله يخسر ديناميكيته السياسية، ويتحول إلى دار فزعة ما تلبث ان يهجرها الجميع حين يتعبون، ومن لم يتعب بعد، وبخاصة وأن الفقراء هم وقود تلك الحروب؟
اليوم تجري محاكمة الحلف على كل ما ارتكبه، وما خلفه من خراب، وما أسسه من صراعات رعاها بعناية ودقة، هذا الحلف من كثرة عشقه للقتل لديه رغبة في القتل حتى بعظامه، لكن اكبر محاكمة له هي التي يجب أن تجريها تلك المجتمعات التي اكتوت بناره، والمحاكمة هنا يجب أن تكون بعدم السماح بنشر الفراغ، يجب أن تتأسس بدائل، تلك الثقافة لا يكفي هدمها والخلاص منها. تلك مهمة جليلة، لكن عدم السعي لبناء ثقافة وطنية متسامحة قائمة على العدل والحق واحترام حق الآخرين وحريتهم، ليست سوى إنتظار لثقافة وسلوك ممانعين، وإن بطريقة أخرى وشعارات مختلفة.
يبقى، انه أياً يكن الحكم الذي ستصدره العدالة الدولية تجاه جرائم هذا الحلف، فإنها ستبقى أحكاما مخففة وغير عادلة، لأن هذه المحكمة ترتكز على عدد محدد من الجرائم الموصوفة، فيما تغفل عن الجرائم الكبرى التي ارتكبت على مدار عقود وبحق مجتمعات بكاملها، من قتل للروح والفعالية والوطنية وتعطيل كل ممكنات النماء والتطور، أي باختصار قتل الحياة برمتها عن سابق إصرار وتصميم.