الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محاولة عبثية لفهم فسيفساء تحالفات الموت

محاولة عبثية لفهم فسيفساء تحالفات الموت

12.06.2014
د. سعيد الشهابي



القدس العربي
11/6/2014
ليس من المبالغة في شيء القول بان الخريطة السياسية وما تنطوي عليه من تحالفات في منطقتي الصراع الاساسيتين في سوريا والعراق، اصبحت تستعصي على الفهم، ويصعب تفكيك عناصرها المتداخلة بالتواء قل مثيله. فمن يدعم من؟ وما مصالح هذا النظام او ذاك من وراء ذلك الدعم؟ حقيقة واحدة يجب تثبيتها هنا مفادها ان حمامات الدم التي تسيل في مناطق عديدة من بلاد العرب والمسلمين مرشحة للتصاعد ما لم ينبر قادة تاريخيون للتصدي لهذه العبثية من فئتين اساسيتين: انظمة الاستبداد مدعومين بقوى الثورة المضادة ومجموعات الارهاب والتكفير.
في 16 ايلول /سبتمبر 1982 حدثت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للفلسطينيين في لبنان، وراح ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف اغلبهم من الفلسطينيين. كانت مشاهد الضحايا تفطر القلب وتعمق الشعور بالغضب والرغبة في الانتقام من مرتكبيها متمثلين بفئات ثلاث: حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي. القتل الجماعي الآخر حدث في مدينة حلبجة الكردية يومي 16 و 17 آذار/مارس 1988، واتهم الجيش العراقي بالقاء الغازات الكيماوية على سكان المدينة، وراح ضحيتها حوالي 5000 شخص. وشهد عقد التسعينات مجازر اخرى في الجزائر بعد الغاء التجربة الديمقراطية الاولى في 1992 التي فازت فيها جبهة الانقاذ الاسلامية. ويمكن اعتبار التجربة الجزائرية في القتل الجماعي رائدة، فقد كسرت اعرافا عربية واسلامية تحرم استهداف الابرياء، وانتهكت قوانين ومواثيق دولية يفترض ان تنظم الصراعات المسلحة وفق قوانين جنيف. والحديث هنا ليس بصدد التطرق لكافة المجازر كما جرى في رواندا والبوسنة والهريك، فموضوعهما مختلف قليلا. المجزرة الاخرى حدثت في 11 ايلول/سبتمبر 2001 عندما استهدف تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن برجي التجارة العالميين في نيويورك. وباعلان الحرب ضد الارهاب لاحقا ظن الكثيرون ان مسلسلات القتل الجماعي ستتوقف، وان المنظومة الحقوقية العالمية ستردع من تسول له نفسه استهداف الابرياء بالقتل بممارسة الارهاب الذي لا يميز بين المذنب والبريء. فهل تحقق ذلك؟ وهل اثبتت المنظومة الدولية فاعليتها لمنع استهداف الابرياء والقتل الجماعي بدون حساب؟ وهل اصبح العالم اليوم أكثر أمنا مما كان عليه في العقود الثلاثة الاخيرة؟ الاسبوع الماضي حدثت مجازر اخرى في مناطق الشمال الشرقي من نيجيريا عندما شنت ميليشيا "بوكو حرام" هجوما كاسحا على عدد من القرى وقتلت المئات من الابرياء.
ظاهرة القتل العبثي لم تعد شأنا يخص بلدا بعينه او حكومة دون غيرها، بل انها تأسيس لفتن تعصف بالامة لتحيلها رمادا، وتضعف ارادتها وتقضي على وحدتها. والتآكل الداخلي من اخطر المشاكل التي تفتك بالكائنات والكيانات. الامر المؤكد ان غياب الموقف المسؤول من جانب القيادات الدينية شجع أشباه العلماء على السيطرة على الملف الديني، فاصبح فهمه خاضعا للتوجهات الشريرة لدى البعض.
ويمكن كذلك ملاحظة ان هذا البعض يشمل احيانا عناصر كانت بعيدة عن الدين وهيأت لها المعتقلات التي تديرها انظمة الاستبداد او قوات الاحتلال الاجنبية في العراق وافغانستان وفلسطين، بيئات حاضنة للعنف والتوجهات المتطرفة والنزعات نحو القتل العبثي. ويبدو ان القيادات الاسلامية ذات الثقل السياسي لم تعد قادرة على التصدي بفاعلية لهذه المجموعات. فالازهر اصبح مشغولا بالسياسة ولاعبا في الشطرنج المصرية وطرفا في الصراع الايديولوجي بين انظمة الاستبداد والشعوب المغلوبة على امرها. اما القيادة الدينية في ايران، متمثلة بالمرشد الاعلى، آية الله السيد علي خامنئي، فتدرك خطر انتشار التطرف المصحوب بالارهاب، وقد اعلنت الاسبوع الماضي انها ستتصدى لما اسمته "ادوات الاستكبار" وتقصد به المجموعات الارهابية. لقد اصبح هذا حقيقة معروفة، ولكن من الذي يعبث بامن الامة من خلال دعم المجموعات المتطرفة في مناطق الصراعات الكبرى؟ في شمال غربي العراق تمارس منظمة "داعش" نفوذها من خلال اعمال العنف التي تستهدف العراقيين يوميا، بدون ان يكون هناك تفسير علمي او شرعي لذلك الاستهداف. من الذي يدعم داعش؟ وما اسباب صراعها مع جماعة "النصرة؟ التي تعمل داخل الاراضي السورية مناوئة لنظام بشار الاسد؟ وما اسباب المواجهات اليومية والقتل المتبادل بين المجموعتين؟
ان تفكيك خريطة التحالفات والتدخلات الخارجية في كل من العراق وسوريا ضرورة لاستيعاب ما يجري على الارض، خصوصا في ضوء التوترات بين داعش وجبهة النصرة والجبهة الاسلامية، العاملتين ضد النظام السوري. من الحقائق حول داعش ما يلي: انها انفصلت عمليا عن تنظيم القاعدة بزعامة أيمن الظواهري، انها تمتلك امكانات عسكرية كبيرة، انها تطمح للسيطرة على كل من العراق وسوريا، ولذلك رفضت توجيهات الظواهري في جانبين: وقف نشاطها في سوريا ونهج تكفير مناوئيها. وكان الظواهري قد رفض مشروع الفرع العراقي من تنظيم القاعدة لتشكيل ما يعرف اليوم بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" وتنصيب أبو بكر البغدادي قائدا عليه، وطلب إبقاء البغدادي قائدا للفرع العراقي على أن تتولى "جبهة النصرة" بقيادة أبومحمد الجولاني العمل بسوريا، وقد رفض البغدادي القرار، وهاجمت وحداته عدة كتائب تابعة للمعارضة السورية، ما أدى إلى تفجر مواجهات مستمرة منذ شهور أدت لسقوط مئات القتلى والجرحى.
المعلومات المتوفرة تقول ان بعض قيادات داعش كان منتميا لحزب البعث العراقي، وانه تحول الى الاتجاه الاسلامي داخل السجون التي كان الامريكيون يديرونها بعد سقوط نظام صدام حسين. الامر المؤكد ان تنظيم القاعدة يعاني من حالة انفصال بين القيادة والقواعد بسبب الظروف الامنية التي تحول دون التواصل بينهما. ومنذ اكثر من عشرة اعوام استطاعت اجهزة مخابرات عديدة اختراق التنظيم وتوجيه بعض فصائله نحو حروب طائفية اضعفت التنظيم وابعدته عن الاهداف الرئيسية التي تكون من اجلها. امريكا من جانبها تؤكد دعمها الجيش الحر ومجموعاته المقاتلة، وتعلم ان السعودية تدعم جبهة النصرة، فما تفسير ذلك؟ وكيف تتعايش جبهة النصرة ذات التوجه القاعدي السلفي مع الجيش الحر ذي التوجه العلماني الليبرالي المدعوم من امريكا؟ أوليست امريكا اعدى اعداء القاعدة؟
يضاف الى ذلك ان الحرب الامريكية ضد الارهاب تقوم اساسا على مواجهة تنظيم القاعدة. فلماذا ترفض امريكا تسليح العراق بما يكفيه لمواجهة داعش التي اصبحت مصدر تهديد اساسي ليس للسلطة المركزية في بغداد فحسب، بل لوحدة العراق نفسه.
امريكا مستعدة لارسال طائرات "درون" لتنفيذ مهمات ضد معسكرات داعش، ولكنها ليست مستعدة لتزويد العراق بتلك الاسلحة. وحتى عندما اعلن في شهر نيسان/ابريل الماضي عن صفقة سلاح بين العراق وامريكا تبلغ قيمتها مليار دولار، اتضح انها ستستغرق وقتا طويلا وستقيد بشروط مشددة وقد لا تكون ذات جدوى كبيرة في الحرب ضد المجموعات المسلحة.
ويلاحظ ايضا جانبان للعلاقات الاقليمية المتداخلة. فتركيا متهمة من قبل حكومة بغداد بانها تسهل عمليات بيع النفط من كردستان العراق ومن تنظيم داعش، وانها لا تتصدى لداعش التي تسيطر على الشريط الحدودي الفاصل بين تركيا وسوريا، فكيف يمكن تفسير هذا التعايش؟
ثانيا ان داعش لم تستهدف المنطقة الكردية في العراق بالتفجير كما تفعل مع مناطق الجنوب الشيعية.
لماذا؟ الدور التركي اصبح مثار جدل كبير، فهو لا يريد ان يتحالف مع السعودية خشية انتشار الافكار السلفية داخل تركيا على نطاق اوسع، ورغبة في لعب دور اقليمي يشمل ايران كذلك. وفي الزيارة الاخيرة التي قام بها الرئيس روحاني لتركيا وقع الطرفان اتفاقات اقتصادية وسياسية عديدة، الامر الذي يشير الى انفراج العلاقات بين طهران وانقرة.
وثمة بعد آخر يرتبط بهذه الفسيفساء من التحالفات المتشحة بمنطق "المصلحة". فقد جاء اتفاق تبادل الاسرى بين واشنطن وطالبان ليضرب المقولة الامريكية بعدم التفاوض مع "الارهابيين". فكيف يمكن تفسير ما يبدو من تناقض في التصريحات والسياسات الامريكية تجاه مجموعات "الارهاب"؟
بعد صفقة تبادل الاسرى رد اوباما على مناوئيه قائلا ان امريكا لا تتفاوض مع المجموعات التي تقاتلها وتستهدف الاراضي الامريكية، ولكنها ستواصل اتصالاتها بالمجموعات التي حولت مسارح عملياتها الى بلدان اخرى. مع ذلك فقد اصبحت السياسة الغربية تجاه سوريا مثيرة للغط حتى في الاوساط الغربية. وهذا يتناقض مع توصيات وجهها تقرير اصدرته منظمة "راند" للادارة الامريكية الاسبوع الماضي يحثها على "انتهاج سياسة اكثر صرامة لاستهداف المجموعات السلفية الجهادية في سوريا التي مثلت في 2013 اكثر من نصف السلفية الجهادية في العالم، اما بعمليات سرية او بتحالفات اقليمية ومحلية". الامر الواضح ان تلك السياسة تسعى، من جانبها، لاستنزاف ايران في كل من سوريا والعراق، لتشغلها عن التفكير الجاد في مشروعها النووي الذي اصبح مستهدفا من اغلب القوى الاقليمية.
وربما التفسير الاقرب الى الواقع ان الحرب التي يشنها تحالف الدول الغربية مع انظمة الاستبداد العربية ضد الاسلام السياسي في شقه السني قد انتهت، وحان الوقت لاستهداف ايران وهي التمثيل الاقوى والاقدم لظاهرة "الاسلام السياسي". وهذا يتطلب في نظر الغربيين، خلط الاوراق بالشكل المذكور، لتدخل ايران في متاهات ودهاليز فيسهل بذلك الاجهاز على مشروعها الايديولوجي والسياسي. انها سياسة تستدعي من ايران وبقية مجموعات الاسلام السياسي قراءتها بعناية لاحتواء الخطط الغربية التي تفرغت لها الآن بعد ان افرغت مجموعات السلفية الجهادية من محتواها وحولتها الى جهود عبثية.
 
٭ كاتب وصحفي بحريني يقيم في لندن