الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محطة "تل كوجر" في مسار المسألة السورية

محطة "تل كوجر" في مسار المسألة السورية

18.11.2013
آزاد أحمد علي


المستقبل
الاحد 17/11/2013
أنجزت المانيا عام 1912 بالتعاون مع السلطة العثمانية خط قطار الشرق السريع، لربط استانبول مع بغداد، وبالتالي أوروبا مع الهند. وذلك كترجمة سياسية لتحالف الدولتين، وتعبيراً عن طموحات المانيا للتواجد في الشرق الأدنى. هذا وقد شكلت الرغبة البريطانية - الفرنسية لاحقا للمشاركة في الاستثمار والتحكم بهذا الخط أحد أسباب قيام الحرب العالمية الأولى. هذا الخط القائم مازال يربط نظريا حلب مع الموصل فبغداد، عبر محطة تل كوجر، لكن حركة القطارات عليه كانت تتوقف أو تزداد حسب الأوضاع السياسية والأمنية وسوية العلاقات بين الدول الثلاث: تركيا، سوريا، العراق. احتفظ خط قطار الشرق السريع بخلفيته السياسية، بل ظل مؤشرا فيزيائيا على درجة حرارة العلاقات الحكومية العراقية - السورية على وجه الخصوص. فقد اغلق الخط مع بوابة "تل كوجر" تماما لمدة تقارب العشرين سنة، ابان حكم البعث في كل من سوريا والعراق، حتى كادت البلدة أن تندثر. ما هو مثير للانتباه ان هذه البلدة الصغيرة التي تأسست حول محطة على خط قطار الشرق السريع، تتصف بحساسية سياسية عالية، وتعاود لتحتل واجهة الأحداث الأمنية والعسكرية في منعطفات حادة من تاريخ المنطقة السياسي، منذ الحرب العالمية الثانية. كانت سهولها الخصبة أصلاً مراعي لماشية القبائل الكردية الرحل (كوجر) طوال قرون عديدة، حتى استقرت فيها بطون من قبيلة شمر البدوية العربية، ابان الحرب العالمية الثانية، واستقرت في المنطقة بتشجيع من السلطتين البريطانية والفرنسية، لتحقيق توازنات ديموغرافية وتثبيت الحدود السورية - العراقية، وتأمينها. لذلك تم أولاً إزاحة سكانها الكوجر نحو عشرة كيلومترات شمالا. ثم اعتمدت المحطة معلماً حدودياً يفصل كل من سوريا والعراق.
انتعشت المحطة - البوابة اقتصاديا، وارتقت اداريا، لتلعب دوراً سياسياً وقبلياً أكبر من حجمها العمراني الجديد. تحقق ذلك أيضا بدعم من سلطات دمشق التي ترجمت دعمها وتوجهها السياسي بتعريب اسم المحطة إلى (اليعربية)، كما تم نقل المركز الإداري للناحية من بلدة (ديرون آغا) الحدودية إليها، أواسط القرن العشرين، بهدف السيطرة على الريف الكردي الشمالي وربطه مع هذه البلدة، المتشكلة حول محطة القطار.
الغاية من هذا السرد الوجيز هو التذكير بأن هذه البلدة الحدودية الهامشية، والتي لايتجاوز عدد سكانها سبعة آلاف نسمة، كانت ومازالت تتسم بسمات جيوسياسية رمزية، منذ تأسيسها مطلع القرن الماضي وحتى الانتفاضة السورية الراهنة. ففي أواسط عام 2012 وبعد انسحاب قوات النظام من المناطق الكردية، سيطرت مجموعات اسلامية مسلحة على هذه البلدة، فاغلق النظام إحدى عينيه على وجودها حتى أواخر تشرين الأول 2013. وبهذا تكون قد سيطرت "كتائب من المعارضة السورية المسلحة" عليها لمدة تقارب السنة، من دون ان تبذل قوات النظام المتواجدة في مدينتي القامشلي والحسكة، أي حركة جدية لإخراجها. فقد كان وجودها إشكالياً في الأساس، ويثير أكثر من تساؤل، لأنه من الصعب استقرار قوات المعارضة فيها، أيا كانت قدراتها، لمدة طويلة من دون حماية جوية.
عملياً، تبقى تل كوجر ثاني أهم معبر حدودي رسمي بين سوريا والعراق، وتتصف البلدة بقيمة استراتيجية مضافة تزداد اليوم بالتوازي مع ارتسام مسار التسوية السياسية المرتقبة للمسألة السورية. لذلك لم يكن مستغربا ان المعارك التي دارت فيها أواخر شهر تشرين الأول 2013 قد نالت اهتماما غير مسبوق من جهات استراتيجية واعلامية. ففي الوقت الذي أكدت قوات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب P.Y.D سيطرتها على المعبر والمنطقة الحرة ومعظم أطراف البلدة، لم تتمكن قوات المعارضة السورية المسلحة الاحتفاظ بمواقعها، وبالتالي ضمت ادارة هذه البلدة إلى المناطق الكردية المجاورة.
ما هو مثير للاهتمام أيضاً أن منطقة تل كوجر ومحيطها القريب لم تكن ضمن أجندات الحركة الكردية السورية، حيث انها منطقة تم تعريبها منذ سنوات عديدة وتسكنها غالبية عربية من قبيلة شمر، ذات العلاقات الطيبة مع جيرانهم الكورد (رئيس ائتلاف قوى المعارضة السورية هو أحد أبنائها). وبالتالي ليس لتوجه قواتY.P.G اليها في هذه المرحلة سوى معنى سياسي ذات عمق اقليمي، ولا يمكن ان تفهم الا في سياق ترتيب الوضع العسكري والجيوسياسي على الحدود السورية - العراقية، ومع اقليم كوردستان العراق، بما يتوافق مع اجندات المرحلة السياسية المقبلة. بمعنى انه تم ترتيب الوضع عسكريا على الأرض بحيث يخدم مشروع التسوية السياسية المرتقبة للمسألة السورية، ويساهم في ترجيحها. وفي جانب آخر أكثر حساسية، يمكن للاحتفاظ بتل كوجر أن يؤمن لوجستيا حركة مرور وتواصلاً جغرافياً بين قوات Y.P.G الكردية والقوات العراقية التابعة لحكومة المالكي، وبالتالي تأمين طريق جغرافي آمن بين طهران ودمشق عبر معبر تل كوجر ومطار قامشلي الدولي.
اذا كتب لهذه الواقع العسكري الجديد الاستقرار والثبات، رغم صعوبته، فيمكن لخط سكة قطار الشرق السريع ان يعمل من جديد، بعد تأسيسه بمائة عام، ولكن وعلى الأرجح ليس لنقل البضائع، إذ سيكون عمله سياسيا صرفا، وربما سينطلق في الحالة هذه من طهران باتجاه بغداد، فإلى أوروبا. ان فرص تحقق هذا التصور تزداد حسب درجة نجاح زيارة المالكي الأخيرة إلى واشنطن، والنتائج العملية للقائه مع أوباما في 1/1 1، وما تتضمن من تفاصيل فرعية تحت عنوان اعلانهما التعاون لمكافحة الارهاب. فشكوك المراقبين تحوم حول سر ترافق هذه الزيارة مع سيطرة قوات Y.P.G على معبر تل كوجر الحدودي. مهما يكن، فعلى الأرجح أن ملامح مشروع سياسي جديد يتبلور في المنطقة، هذا المشروع الذي بات يحدد احداثيات حزب P.Y.D وقواته العسكرية بدقة ووضوح أكثر، على الساحة السورية والاقليمية، فلم يعد انخراطه في خدمة محور طهران - بغداد - دمشق تكهنا، ولا قراءة نظرية، وانما انخراط عملياتي، صريح ولوجستي، أسوة بنظيره حزب الله اللبناني. ويظل الملمح الآخر لهذا المشروع هو الارتفاع المطرد لدور حكومة بغداد.
ان محطة تل كوجر تبدو اليوم على الرغم من صغرها، أحد أهم المحطات السياسية وأخطرها في مسار التسوية السورية، وربما تكون أول محطة ليس لنقل الركاب غير المرغوب بهم إلى جنيف وحسب، وانما انطلاقة لمشروع هدنة وتسوية سياسية كبيرة تفعل دور حكومة المالكي، وترسخ نفوذ طهران، وتجمد كثيرا من مفاعيل الزلزال السوري، وربما تعطي فرصة للإدارة الأميركية، الحائرة والمنهكة، لترتاح ولو قليلا في هذه المرحلة.
 
() كاتب وأكاديمي كردي