الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محكمة اغتيال الحريري في "لاهاي"

محكمة اغتيال الحريري في "لاهاي"

21.01.2014
عبدالله بن بجاد العتيبي


الاتحاد
الاثنين 20/1/2014
بدأت يوم الخميس الماضي المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري في لاهاي بهولندا، وهي تأتي بعد تسع سنواتٍ من عملية الاغتيال، إنها محكمة جنائيةٌ وليست سياسيةً تعتمد القانون اللبناني بقضاةٍ ومدعين عامين ومحامين دوليين.
وعلى الرغم من كل التلاعب الذي جرى في مسرح الجريمة، فإن الادعاء استطاع بناء قضيةٍ شبه متكاملةٍ ضد عناصر تنتمي لـ"حزب الله" اللبناني التابع لإيران وسوريا، وهم كلٌ من سليم جميل عياش ومصطفى أمين بدر الدين وحسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا، مع عناصر أخرى لم تعرف أسماؤها بعد.
تأتي هذه المحاكمة وقد تغيرت الأوضاع وشهدت المنطقة تحولاتٍ كبرى وانتقلت بؤرة الصراع الإقليمي من لبنان إلى سوريا نفسها التي كانت تدير الفوضى في لبنان منذ الحرب الأهلية وما بعدها، وها هي تشهد فوضى عارمةٍ اضطرتها للاستعانة بكل البيادق الإيرانية المسلحة شيعياً وسُنياً.
لن تكون هذه المحاكمة محاكمة القرن كما لم تكن محاكمة صدام حسين، ولم تكن محاكمة حسني مبارك، ولكنه الولع العربي بالمبالغة والتضخيم، وإلا فنحن في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وما يخبئه المستقبل أكبر بكثير مما نراه اليوم، ولكن هذا لا ينفي أبداً، ولا يقلل من أهمية هذه المحاكمة.
إنها محكمة دوليةٌ يعرض فيها بالأدلة والوثائق والصور ومقاطع الفيديو ولقطات كاميرات المراقبة تورط "حزب الله" اللبناني التابع لإيران، ولنظام بشار الأسد في جرائم إرهابية صريحةٍ وقتلٍ واغتيال وتفجيرٍ ما يسلّط الضوء على الإرهاب الشيعي المسكوت عنه دولياً والذي لا يختلف عن الإرهاب السُني في شيء، بل يسلط الضوء أكثر على التحالف بين هذين النوعين من الإرهاب.
في بداية الأزمة السورية، حذّر العديد من المتابعين والمراقبين من أن تغاضي الدول الغربية عمّا يجري في سوريا، سيولّد الإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه، وسيخلق البيئة المناسبة لتكاثره وانتشاره، وقد كانت هذه هي رغبة بشار الأسد واستعملها مبكراً كحجةٍ أراد ترسيخها تقول بأنه لا يقاتل شعباً كاملاً مسالماً، بل يقاتل مجموعاتٍ إرهابيةٍ واستمرّ على نفس الرواية، حتى جاء الإرهابيون من كل حدبٍ وصوبٍ وعشعشوا وبيّضوا في سوريا، وصارت لهم جبهاتٌ وكتائب، فضلاً عن الكوادر والعناصر. وانتفضت في سوريا كغيرها من جمهوريات الفوضى في العالم العربي التي تتلمس الخلاص كل كوامن التاريخ وإحن الطائفية وعنصرية العرق والقبلية، ولكنّ الصراع في سوريا كان صارخاً وفاقعاً.
هذا الحديث تمّ التطرق له تفصيلاً في هذه المساحة وكتب عنه العديد من الكتاب والمثقفين والباحثين، واليوم حين يصرح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأن "نظام الأسد يحاول تضليل المجتمع الدولي عندما يقول إنه يحارب الإرهاب والتطرف ويدافع عن بلاده، والصحيح أن الأسد هو من أتى بالإرهاب إلى سوريا، ولا يمكننا السماح بمثل هذا أن يحدث في المنطقة" فينبغي أن نقول له هذا حديثٌ قديمٌ نعرفه جيداً في المنطقة، ولنا أن نتساءل هل هو موقفٌ جديدٌ تتبناه الإدارة الأميركية أم أنه مجرد تصعيدٍ في اللهجة يراد منه التمهيد لجنيف 2 السورية؟
ما تثيره محكمة الحريري، هو أنه يجب الفرز في مواقف القوى الإقليمية تجاه لبنان، فالمتابع والراصد يجد أن ثمة إصراراً وتأكيداً على الانتماء للبنان ودولته ومؤسساته عبرت عنه قوى 14 "آذار" وداعموها الإقليميون من السعودية ودول الخليج. وتبرع السعودية بثلاثة ملياراتٍ لدعم الجيش اللبناني بصفقةٍ مع فرنسا يأتي ضمن هذا الإطار الذي يقابله إصرارٌ آخر دأبت عليه إيران وسوريا الأسد و"حزب الله" بأنهم قادرون دائماً على القتل والتفجير والاغتيال، وقائمة العمليات الإرهابية التي صنعوها ونفذوها طويلة.
هذا الأسلوب الإرهابي لم يكن مقتصراً على لبنان فحسب، بل طال شرره العديد من بقاع العالم، فـ"حزب الله" الإرهابي خطط ونفذ العديد من عمليات الإرهاب حول العالم في أوروبا وأميركا الجنوبية وغيرها، وإيران فعلت الأمر ذاته وأكثر، ويمكن بسهولة استحضار كيف خططت وسعت لاغتيال السفير السعودي في واشنطن.
محكمة الحريري حجر كبير ألقي في بركة لبنان المنخرطة رغماً عنها في الأزمة السورية، وفي الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة، ويمكن مراقبة ذلك في تصريحات السياسيين اللبنانيين كسعد الحريري ووليد جنبلاط وغيرهما، كما في تغطية وسائل الإعلام اللبنانية من صحفٍ وفضائياتٍ للحدث، والتجاهل هنا موقف مثله مثل التصريح.
انخرط لبنان في الأزمة السورية، وهو أمرٌ متوقعٌ منذ بدء الأزمة السورية وتحديداً منذ الدخول الكامل لـ"حزب الله" في تلك الأزمة، ولئن كان متوقعاً منذ ذلك الدخول أن النار ستصل لمواقع "حزب الله" ودوائره الضيقة بحكم المنطق وطبيعة التاريخ وتفاعلات البشر، فإن الواقع اليوم ينطق بوصول تلك النار، ليست على سبيل المصادفة بل بفعل جماعاتٍ إرهابية تستخدم ذات الأساليب الدموية تحت مسمياتٍ شتى، فها هو الحزب يواجه تفجيراتٍ مشابهةٍ في معقله الرئيس في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي المناطق التابعة له على الحدود مع سوريا كالهرمل، وليس في لبنان وحده، بل في اليمن كذلك كما جرى في عملية اغتيال الدبلوماسي الإيراني في صنعاء. لقد خرجت له جماعاتٌ تشبهه وتعمل مثله.
المشاهد المعقدة كما في منطقتنا تحتاج لتعبٍ وجهدٍ في الفهم وتحتاج لتعبٍ أكبر وجهدٍ أكثر لمحاولة الفعل والتأثير، والتعامل معها عبر بعدٍ واحدٍ يورث الخطل والخطأ، الخطل في القراءة والتفكير والخطأ في التحليل والرؤية، ولذلك فقد سقط كثيرون من العرب والخليجيين في وحول الخديعة الإيرانية وانساق مثلهم خلف حبائل الخطابات القومية واليسارية التي كانت ترعاها إيران في وسائل الإعلام وخارجه، وقد عبرت بعض تلك الأسماء عن حجم الخديعة التي ارتموا فيها وروّجوا لها، ومعهم آخرون دافعوا بشدةٍ عن "حزب الله" في حربه المغامرة التي جناها حنظلاً في 2006 وبرروا بنفس القدر لحرب "حماس" 2008 وروّجوا لربيع الأصولية والفوضى 2011 على أنه الخلاص النهائي لكل مشاكل العرب ودولهم وشعوبهم، وحين تجلت الحقائق لم يصنعوا مثل أولئك ويعترفوا بالخطأ بشجاعةٍ وينتقلون لمرحلةٍ جديدةٍ، ولكنّهم أصروا على التبرير والتملص أو بكل بساطةٍ انتقلوا لمواقع أخرى.
أخيراً، بدأت محكمة الحريري، و"حزب الله" يواجه أمثاله. إنه لقاء الأشرار وجهاً لوجه، وبنفس الأساليب الدموية، وذات الأدوات التدميرية التي تستهدف المدنيين وتقتل على الهوية.