الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "مدرسة" الأخضر الإبرهيمي: دبلوماسية الاختمار

"مدرسة" الأخضر الإبرهيمي: دبلوماسية الاختمار

09.11.2013
جهاد الزين


النهار
الخميس 7/11/2013
هنا محاولة لفهم دور المبعوث العربي الدولي في الأزمة السورية الأخضر الابرهيمي تقوم على مقارنة بين ظروف المهمة الحالية وبين دوريه في لبنان 1989 – 1990 والعراق 2004.
كُلّف الأخضر الابرهيمي بمهمات عربية ودولية حسّاسة وبارزة خلال حوالى 25 عاماً مضت حتى الآن. تاريخه طويل جدا في العمل السياسي ولكنه أمضى أكثر عمره في العمل العام منذ الخمسينات في أدوارٍ ديبلوماسيةٍ، بل حتى في مرحلته الثورية عندما كان جزءاً من النضال الوطني الجزائري كان مندوبا في الخارج أي ديبلوماسياً لدى الثورة التي لم تكن قد استلمت السلطة. فبعد تاريخ من العمل داخل الجامعة العربية في الثمانينات خَتَمَ هذا السجلَّ كوزيرٍ لخارجيّة بلاده بين 1991- 1993. أما أدواره الأخرى فبدأت في عهد صديقِهِ بطرس بطرس غالي كأمين عام للأمم المتّحدة مندفعاً إلى حلبة العمل الرفيع على المستوى الدولي عام 1994 واستمر ذلك في عهد كوفي أنان وتكرّس في عهد بان كي - مون في مسار من المهام امتدّ بين اليمن وهاييتي وزائير وجنوب إفريقيا وأفغانستان. المرحلة أو المراحل التي سأتناولها هنا لمحاولة فهم أسلوبه في العمل، باعتباره يتولّى اليوم مهمة التوسّط الدولي في الأزمة السورية، هي المراحل "الأخيرة" أي منذ قام بالتوسّط في الأزمة اللبنانية بتكليف عربي في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم إلى مهمّتِهِ في العراق إثْر تغيير العام 2003، إلى دوره الحالي في الملف السوري.
فما هي ملامح أسلوبه - تفكيره في العمل كما أراها كمراقب سياسي من "الخارج" لأن معرفتي الشخصية به محدودة ولا تزيد عن بعض المصادفات في مناسبات اجتماعية وسياسية في بيروت بين1987 و1991؟ وستنحصر المقارنة في نطاق مهماته العربية وتحديدا لبنان والعراق وسوريا لأن هذه الدوائر الثلاث هي أزمات لها خاصيّة التحضير أو المساعدة على التحضير لتركيبة سلطوية داخلية في كلٍ منها (تشبهها أفغانستان بعد الغزو الأميركي).
الملاحظة الأولى:
في لبنان 1989 نجح الأخضر الابرهيمي نجاحا منقطع النظير. في العراق 2004 بقي على هامش التحوّل إن لم نقل أنه فشل من حيثُ عدمُ تمكّنه من المساهمة في التحضير لصيغة عراقية داخلية أكثر تطابقا مع النظام الإقليمي العربي بمحوره السعودي المصري الأقوى يومها أو أقل تناقضا معه. فماذا سيفعل أو لن يفعل في سوريا اليوم وغدا؟
الملاحظة الثانية:
ينتمي الأخضر الابرهيمي، ولستُ هنا في مجال الحديث عن دماثته وذكائه وصلابته التي يسلّم له بها كلُّ من أعرفهم بين أصدقائه، إلى بيئة حياةٍ سياسيةٍ عربيةٍ كان السائد فيها هو العمل الحزبي العسكري القومي اليساري في الجزائر وسوريا والعراق وليبيا وخصوصا مصر. بهذا المعنى في فترة نشوئه ونضجه السياسي كان ينتمي إلى بيئة ذات ثقافة وطنية لاديموقراطية. كان جزءا من هذه البيئة. ولهذا هو يفهم حاليا الجذور العميقة لهذه البيئة البيروقراطيّة في دول كمصر وسوريا، والعراق سابقا، ناهيك عن الجزائر الحالية. وإذْ يأتي إلى سوريا فهو يعرف بعمق عناصر قوة وضعف النظام السوري بل يعرف مكامن عنفه الأمني وطاقته ونمط سيطرته على بنية الدولة ونوع تحالفاته الداخلية الاجتماعية والطبقية والمناطقية. إلا أنه يعرف شيئا أهم هو أن هذا النظام السوري الذي يبدو مختلفا جدا على المستوى الطائفي هو شبيهٌ جدا بـِ، بل جزءٌ من عائلة "السلطات الأمنية" في دول عربية كثيرة حكمها الجيش. لكن الابرهيمي في الوقت نفسه وبسبب تطور تجربته الشخصية في الغرب بات يتحسّس الهوة العميقة بين الثقافة السياسية غير الديموقراطية لهذه الأنظمة وبين تطلّعات نخبها الليبرالية لأنه على صلة بالأوساط العربية التي تنتمي إلى حساسيات ما آل إليه الجيل الجديد من الدياسبورا العربية في الغرب.
ونستطيع الحدس على ضوء ذلك أن الأخضر الابرهيمي "متواطئ" مع طرفي الصراع في سوريا من ناحيتين مختلفتين:
هو صادق جدا في معارضته لتفتّت سوريا وانفجارها المناطقي وهو لهذا لا شك أنه يؤمن بأن شعار وقف الحرب هو أعلى من أي مهمّة أخرى عنده أي أعلى من تغيير النظام. وأتذكّر مرة بعد انفجار الحرب الأهلية في الجزائر إثر رفض الجيش تسليم السلطة لـ"جبهة الانقاذ" الإسلامية الفائزة في الانتخابات أن أحد معارفه العرب نقل لي عنه رأيه بأن الخطأ الجوهري كان إجراء الانتخابات الذي أوصل إلى هذا الوضع، ولكي يتفادى الجيش مأزق تسليم السلطة كان يجب ألا يتورط في إجرائها فتتفادى الجزائر الحرب الأهلية. هذا يعكس نمط تفكيره أو نوع الواقعية السياسية التي ينتمي إليها والتي قد يكون أضيف إليها في العقدين الماضيين إطّلاعُهُ على حصيلة الأبحاث والتقييمات الغربية التي خلصت إلى فشل الإسلام السياسي في إدارة الحكم. والأخضر الابرهيمي متواطئ مع معارضي النظام السوري بأنه، بدءا من محيطه العائلي والشخصي في باريس، بات يعرف أن هذا النوع من الأنظمة العسكرية لم يعد ممكنا أن يستمر بالصيغ القديمة.
الملاحظة الثالثة:
علاقته بالسعودية: في المهمّة اللبنانية التي قام بها كان حسابه للوزن السعودي أساسيا وكان يعرف أن التغيير في "اتفاق الطائف" هو مشروع شراكة سعودية سورية لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان بدعم من الولايات المتحدة الأميركية ثمنها تخفيف النفوذ المسيحي في الدولة اللبنانية. في العراق كان يحمل همَّ النظام الإقليمي العربي الذي يواجه في عراق 2003 وضعا لا سابق له وبهذا المعنى كان يحمل أيضا همّا سعوديا حتى وهو يأتي في مهمّة دولية. في سوريا هو أكثر تمثيلا للتوازن الدولي لاسيما أن السعودية باتت في وضع يعارض حتى الآن هذا التوازن الناشئ بالاتفاق الروسي الأميركي...
الملاحظة الرابعة:
في كل أزمة من الأزمات الثلاث، لبنان والعراق، وسوريا اليوم، هناك طرف يحدّده ميزان القوى كعائق أمام الحل. هكذا ينشأ "الكومبين" كل مرّة. ففي لبنان نجح الابرهيمي في "الالتفاف" على معضلة ميشال عون. وبمزيج من القوة والحيلة أقصى التوافق الدولي العربي الجنرال عون. في العراق كانت المهمة أصعب وأوسع: كيفية صياغة معتدلة وتشاركية لـِ ومع النفوذ الشيعي غير المسبوق الذي أطلقه من قمقمهِ الغزوُ الأميركي. لم يكن صعبا أن يفهم الأخضر الابرهيمي أن الطرف الأساسي لتحقيق هذه المهمة هو المرجع الشيعي السيد السيستاني لكن المهمة كانت أصعب وأعقد حيال الوضع الجديد الذي سيستلم العراق العربي. في لبنان كانت "العقبة" تمثلها قوة متراجعة هي "المارونية السياسية". بينما في العراق كانت الجهة المعنية قوة "صاعدة" هي "الشيعيّة السياسية". لم ينجح الابرهيمي وهمّش السياسيون العراقيون الشيعة الجدد مهمّتَه فخرج خالي الوفاض - من زاوية الأهداف الأولى - في حين كان العراق يذهب إلى قبضة معادلة مثيرة لم يحسب الابرهيمي وكل الوسطاء العرب والدوليين آنذاك، حسابها تماما: معادلة نفوذ أميركي إيراني مشترك.
إذا كانت "الحيلة" بالمعنى السياسي لا الأخلاقي التي حَمَلَتْها مهمّةُ الابرهيمي قد نجحت في لبنان 1990 و"فشلت" في عراق 2004 فما هي في سوريا اليوم؟ هل الطرف العائق تبعاً للهدف الدولي داخليٌّ أم خارجي؟ أي بكلام آخر هل "الحيلة" كما حدّد غايتَها التوافقُ الدولي تستهدف طرفا في الداخل أم في الخارج؟ أين كلمة السر التي يحملها الابرهيمي؟
أسلوب الابرهيمي يقوم على انتظار تحوّلات ميزان القوى. لذلك هو سمّى مهمته في سوريا مستحيلة في تكليفه الأول وغاب منتظرا التحوّلات ليظهر في لحظة انعطاف فيختبر إمكانية تحقيق الهدف ثم ينسحب منتظرا تحوّلاتٍ جديدة. هو رجل ديبلوماسية الاختمار. اختمار كل شيء كبير: القوة والضعف، اللاعبون والمسرح، الضحايا وورثتهم، الخاسرون والرابحون... لأنه يعلم - وتَعَلّمَ في لبنان وأفغانستان والعراق واليمن - أن الانعطافات الكبرى أعمق من أن تُهضم بسرعة وأن دوره لكي ينجح يجب أن يحصل على دفعات وبأعلى قدر ممكن من الاعتماد على "الإرادة الدولية العليا". في لبنان فهم بوضوح نقطة التوافق العربي الدولي. في العراق كانت لعبة تبيّن أنها جديدة ولم يكن النظام الإقليمي العربي وراء الإرادة - الإدارة الأميركية آنذاك يلعب بقواعد اللعبة القديمة التي يتقنها. لكنْ اليوم في سوريا بات الابرهيمي "مدرَّبا" على العامل الإيراني كما الروسي الحاضر بقوة في حين كان الروسي شبه غير موجود في التجربتين اللبنانية والعراقية. في لبنان كان دوره في مرحلة قوة النظام الإقليمي العربي، في العراق كان دوره في مرحلة أول انكسار عميق بل زلزال في هذا النظام الإقليمي.
في سوريا الراهنة هي مرحلة ما بعد النظام الإقليمي. هذا النظام الذي لم يعد كافياً ولا "جائزا"، مع الأسف، تعريفه بـ"العربي" بين المثلّث الإسرائيلي التركي الإيراني الذي لا ينافِس ما تبقى من مرجعيات عربية فقط بل تتصارع كلٌّ من أضلُعِهِ الثلاثة على استقطابها.