الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مسارات التحولات الشرق أوسطية

مسارات التحولات الشرق أوسطية

09.02.2014
غازي دحمان


المستقبل
السبت 8/2/2014
منذ بداية الربيع العربي، دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة تغيير نوعية، وحتى اللحظة تعيش هذه المنطقة تفاعلات الثورة وارتداداتها، صحيح أن صورة المشهد لم تتوضح حتى اللحظة على تعينات محددة، سواء على الصعيد السياسي، أم على الصعد الجغرافية والديموغرافية، غير أن قطار الشرق الأوسط غادر محطته السابقة نهائياً، وقد يطول مشوار السفر إلى المحطة التالية، وأي محطة؟.
لكن ثمة أمور كثيرة بدأت تكشف عن نفسها في سياق مسار التحولات التي شهدتها المنطقة، ويمكن من محاولة قراءة تلك التغييرات، من صورة المشهد المتوقع للمنطقة في الأفق القريب، وبناء تصور مآلات التشكل الذي سيكون عليه في مرحلة لاحقة.
أولاً: التحولات العنيفة التي شهدتها منقطة القلب من الشرق الأوسط "سوريا لبنان والعراق" تنبئ باستمرار نمط التفاعلات العنيفة لزمن غير محدود، ذلك أن الشرخ الحاصل بين مكونات المنطقة أكبر من أن يصار إلى استعادته في زمن قصير، ولعل احد المشكلات السياسية الأساسية هنا عدم وجود رؤى سياسية عقلانية ومنطقية ممزوجة بعدم توفر إرادة لدى هذه المكونات تساعدها على الخروج من هذا الوضع المأزوم إلى نمط جديد يقوم على الشراكة ووحدة المصير واستعادة دور الدولة الوطنية الجامعة، ذلك أن طبيعة الصراع الصفري الذي تخوضه مكونات المنطقة يجعل هذا الصراع يسير وفق قاعدة" قاتل او مقتول" وهي قاعدة طاردة لأي شكل من ممكنات التلاقي في المرحلة الراهنة.
وما يزيد من تعقيد هذا الواقع، انفراط عقد الدولة الوطنية، وتحول الفعالية إلى مكونات أصغر ذات هويات مذهبية أو عرقية، ومن المرجح أن يستمر تأثير هذه الفواعل في المرحلة المقبلة، وبخاصة أنها تتغذى من ديناميات صراعية ما قبل دولتية، وهذا الواقع يضع دول المنطقة على سكة تغييرات مفتوحة المدى والاتساع، إذا لم تتدخل إرادة أكبر من إرادة هذه الأطراف للمساعدة في وقف التداعيات الحاصلة.
ثانياً: تتفاعل الأزمة في مصر بشكل يفوق قدرة نخبها على التحكم بمصائر الأمور، صحيح أن مصر تتميز بتراث مؤسسي وخبرة عريقة في مجال الدولة، ولا تعاني الإشكالات ذاتها التي تعيشها منطقة القلب، لكن برغم كل ذلك، ورغم الإجراءات التي قام بها الجيش المصري، فإن الأزمة تتدحرج وتكبر مثل كرة الثلج، وهذا توصيف أكثر مما هو تحليل، وإذا كان يمكن القول، بالارتكاز إلى الخبرة التاريخية، بان مصر تستطيع تجاوز الأزمة مع مرور الزمن وهضمها نظراً لما تمتلكه من أدوات فاعلة وإرادة شعبية مساندة، غير أن المؤكد أن الأزمة ستحفر عميقاً في الواقع المصري، وهي وإن انتهت في مرحلة ما، إلا أن المتوقع أن يتولد عنها حزمة من الأزمات، في ظل واقع اقتصادي واجتماعي لا يشهد تطورات نوعية تمكن النخب الحاكمة من صنع بدائل ذات جاذبية مقبولة.
ثالثاً: أدى امتزاج مشهدي الثورة في ليبيا وتونس في وجدان الشارع المغاربي عموماً إلى تولد ميل ذي طبيعة أقرب إلى الإصلاح والتهدئة، فقد عملت الكيانات السياسية في هذا المقلب الشرق أوسطي على توليف سياق سياسي ودستوري قابل للتطور ومسايرة التغييرات التي تحصل، أقله في الزمن المنظور، ما يعني أن احتمالات حدوث تغييرات عميقة وثورية أمر بات خارج الحسابات في هذه المرحلة، وإن كان هذا الاحتمال لا يزال حاضراً في الجزائر مثلاً لتخلف أدواتها الدستورية بعض الشيء عما هو في تونس والمغرب، وكذا الوضع في ليبيا الذي لا يزال غير مستقر حتى اللحظة.
رابعاً: رغم الانخراط الأميركي المشفوع برغبة في إيجاد حل مقبول للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن شروط الحل لم تنضج بعد، ذلك ان الورقة الأميركية للحل تتكئ بدرجة كبيرة على الظروف الإقليمية المعقدة وإمكانية استثمار حالة الضعف الشديد في النظام العربي وهو ما ينعكس كرهان أميركي على إمكانية تمرير الحل، غير أن ضعف الطرح الاميركي يجعل من الصعب على القيادة الفلسطينية القبول بمحتوياته بما يتضمنه من مسخ للحقوق الفلسطينية، بل انه يذهب إلى حد تحويل السلطة الفلسطينية إلى وكيل محلي للإدارة الإسرائيلية يخضع، بشكل دائم، للتجربة والفحص، تحت طائلة سحب الوكالة والعزل في أي لحظة.
خامساً: يقع الجاران التركي والإيراني على خط الزلزال الشرق أوسطي، ليس بسبب انخراطهما بأحداث الربيع العربي وحسب، وإنما بسبب جملة من التقاطعات بين البنى الديموغرافية والإثنية والمذهبية الموجودة في المنطقة، وحتى درجة التشابه النسبي بين الأنظمة الحاكمة والنخب السياسية، وإذ تواجه تركيا نهاية تجربتها الاستثنائية والعابرة، حيث تصطدم بكوابح انقساماتها الاجتماعية والسياسية التي تعيقها من تجديد طاقتها للاستمرار في الصعود الذي شهدته في السنوات السابقة، فإن جارتها إيران تعيش مرحلة التهيؤ للبركان القادم والذي ينذرها بعواقب وخيمة، إذ تجبرها الظروف الاقتصادية والواقع الاجتماعي المتوتر على فتح الباب أمام تيارات فكرية وسياسية لا يمكنها التعايش مع نظام الولي الفقيه واشتراطاته، والمتوقع أن تفرز عمليات التكييف الإقتصادية والسياسية التي يجريها النظام الإيراني تحت ضغط الطلب الدولي إلى إنتاج بيئة أكثر تقبلاً للتغيير والثورة.
سادساً: رغم كل ما قيل عن فقدان الشرق الأوسط لأهميته الإستراتيجية لصالح مناطق أخرى، غير أن كل ذلك بقي كلاما نظريا لا يوجد له أسانيد واقعية، وما يثبت هذه الحقيقة حجم الانخراط الدولي في قضايا الشرق الأوسط بالقياس إلى مناطق أخرى، صحيح أن هذا الانخراط يبدو متخففاً من أي حمولات أيديولوجية وأكثر ارتباطا بالمصالح المرتبطة بقضايا محددة، غير أن هذا الانخراط مرشح لإنتاج وقائع جديدة في الوضع الإقليمي الشرق أوسطي في حال استمرار منظومة التفاعلات على حالها.
والحال، فإن مسارات قطار الشرق الأوسط تعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة التطورات الحاصلة واتجاهات تطورها المستقبلية، بعض من هذه التطورات مرشح للاستمرار بوتيرة تصاعدية منفلتة، وبعضها الأخر صنع ديناميته الخاصة ويسير بحركة مضبوطة، لكن السؤال عن المحطة القادمة سيبقى شاغلاً سكان هذه البقعة من العالم وكذا المتابعين والمهتمين.