الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مستقبل الرأسمالية صدام الرأسماليات: الصراع الحقيقي من أجل مستقبل الاقتصاد العالمي (2-1)

مستقبل الرأسمالية صدام الرأسماليات: الصراع الحقيقي من أجل مستقبل الاقتصاد العالمي (2-1)

29.01.2020
برانكو ميلانوفيتش


برانكو ميلانوفيتش* – (فورين أفيرز)
الغد الاردنية
الثلاثاء 28/1/2020
مقدمة محرر الملف:
كانت الرأسمالية ناجحة تماماً كنظام للاقتصاد السياسي. وقد ظهرت في القرن الثامن عشر، وأقلعت في القرن التاسع عشر، وهيمنت على العالم في القرن العشرين. وأثبتت الصفقة الفاوستية التي تعرضها -الثروات والحريات، بثمن الاستقرار، والتقاليد، والمجتمع- أنها جذابة لدرجة أن المزيد من المجتمعات تواصل إبرامها. والآن، بعد أن ترك منافسيه الأيديولوجيين في الغبار، يواجه النظام عيوبه الخاصة، وليس الحساب دائما جميلا. ومع ذلك، حتى الآن، ما يزال كل الكلام عن الانتقال إلى شيء جديد وأفضل، حتى الآن، مجرد كلام.
في مقالات هذا الملف، يلاحظ برانكو ميلانوفيتش Branko Milanovic أن انتصار الأسواق هو شيء فريد من نوعه في تاريخ البشرية؛ لم يحدث أبداً من قبل أن أصبح نمطا واحدا للإنتاج عالمياً. ومع ذلك، غالباً ما تأتي الصدوع في أعقاب الانتصارات، واليوم يتصارع معسكران رأسماليان من أجل التفوق: معسكر جدارة ليبرالي، تقوده الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، ومعسكر سياسي بقيادة الدولة، تشكل الصين رأس حربته. ولكل منهما مشاكل كبيرة تلوح في الأمام.
ويلاحظ أبيجيت بانيرجي Abhijit Banerjee وإستير دوفلو Esther Duflo -اللذان فازا بجائزة نوبل في الخريف الماضي عن أبحاثهما- أن النمو الاقتصادي المقُود بالسوق خلال نصف القرن الماضي قد انتشل المزيد من الناس من ربقة الفقر بشكل أسرع من أي وقت مضى، وخاصة في الصين والهند. لكن أحداً لم يتمكن من إيجاد صيغة موثوقة للنجاح الاقتصادي. ولذلك، بدلاً من البحث عن نظريات كبرى، يجب على الحكومات أن تركز على التدخلات المباشرة للمساعدة في تحسين حياة الناس.
يقول جوزيف ستيغليتز Joseph Stiglitz وتود تاكر Todd Tucker وجابرييل زوكمان Gabriel Zucman أن الرأسمالية أصبحت في أزمة بسبب نقص في العائدات، والذي نشأ لأن النخب البلوتوقراطية تلاعبت بالنظام لحماية مصالحها، واختزان مواردها وتجويع الدولة. والحل الذي يقترحه المؤلفون لهذه المشكلة هو زيادة الضرائب بشكل كبير.
وتقطع مياتا فانبوله Miatta Fahnbulleh شوطاً أبعد، مدعية أن ركود الدخول، وتركز الثروة، والكوارث البيئية التي تلوح في الأفق، تدل كلها على أن الرأسمالية قد وصلت إلى حدودها القصوى. هناك حاجة إلى نموذج اقتصادي جديد، والذي يقوم بالتوفيق بين المثل الاشتراكية التقليدية والحقائق المعاصرة، وبتمكين الناس والمجتمعات بدلاً من الدولة.
يلتمس جيري مولر Jerry Muller الاختلاف بأدب. إن اقتراح طفرة ازدهار للاشتراكية الجديدة neosocialist هو محض نكتة، وسيكون فرض الضرائب على الثروة كابوساً، وسوف يكون العمل الحقيقي في معالجة التغير المناخي مدفوعاً بالابتكار في ريادة الأعمال -ما لم يتحكم يعاقِبة اليوم في الاقتصاد ويقومون بإغلاقه.
والخلاصة؟ بعد قرنين ونصف الآن، ما نزال نحاول أن نخمن كيفية نجني إيجابيات الأسواق مع حماية أنفسنا من الجوانب السلبية. والفوائد تفوق التكاليف، ولذلك تستمر الرأسمالية في المضي قدماً. ولكن، كلما بدا أكثر أن النظام يعمل فقط لفائدة أولئك الذين في القمة، سيواجه المزيد من المشاكل في الحفاظ على الشرعية الديمقراطية.
 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
تحكم الرأسمالية العالم. ومع أكثر الاستثناءات هامشية، ينظِّم العالم بأسره الإنتاج الاقتصادي الآن بالطريقة نفسها: العمل تطوعي، ورأس المال يتركز في أغلبه في أيدي القطاع الخاص، ويتم تنسيق الإنتاج بطريقة لا مركزية تحفزها الأرباح.
وليس ثمة سابقة تاريخية لهذا الانتصار. في الماضي، كان على الرأسمالية -سواء في بلاد ما بين النهرين في القرن السادس قبل الميلاد، أو الإمبراطورية الرومانية، أو الدول-المدن الإيطالية في العصور الوسطى، أو “البلدان المنخفضة” (1) في أوائل العصر الحديث- أن تتعايش مع طرق أخرى لتنظيم الإنتاج. وشملت تلك البدائل الصيد والجمع، والزراعة صغيرة النظاق التي مارسها الفلاحون الأحرار، والقنانة، والعبودية. وحتى وقت قريب قبل 100 عام، عندما ظهر الشكل الأول من الرأسمالية المعولمة مع ظهور الإنتاج الصناعي واسع النطاق والتجارة العالمية، كانت العديد من أنماط الإنتاج الأخرى هذه ما تزال قائمة. ثم، بعد الثورة الروسية في العام 1917، تقاسمت الرأسمالية العالم مع الشيوعية التي سادت في البلدان التي تضم مجتمعة حوالي ثلث سكان الكوكب. ومع ذلك، أصبحت الرأسمالية الآن هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للإنتاج.
يصبح من الشائع باطراد أن نسمع المعلقين في الغرب يصفون النظام الحالي بأنه “الرأسمالية المتأخرة”، كما لو أن النظام الاقتصادي على وشك الاختفاء. بينما يشير آخرون إلى أن الرأسمالية تواجه تهديداً متجدداً من الاشتراكية. لكن الحقيقة التي لا مهرب منها هي أن الرأسمالية موجودة لتبقى وليس لها منافس. وقد احتضنت المجتمعات في جميع أنحاء العالم الروح التنافسية والاستحواذية المتأصلة في الرأسمالية، والتي من دونها تنخفض الدخول، ويزيد الفقر، ويتباطأ التقدم التكنولوجي. بدلاً من ذلك، تدور المعركة الحقيقية داخل الرأسمالية، بين نموذجين يصارع كلٌّ منهما الآخر.
في كثير من الأحيان في تاريخ البشرية، سرعان ما جاء في أعقاب انتصار نظام أو دين انقسام بين تنويعات مختلفة من العقيدة نفسها. فبعد انتشار المسيحية في شواطئ البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، مزقتها النزاعات الإيديولوجية الشرسة، والتي أنتجت في نهاية المطاف أول انقسام كبير في الدين، بين الكنائس الشرقية والغربية. وكذلك كان الحال مع الإسلام، الذي سرعان ما انقسم بعد انتشاره المذهل إلى فرع سني وآخر شيعي. كما أن الشيوعية، منافسة الرأسمالية في القرن العشرين، لم تبقَ متجانسة لفترة طويلة، وانقسمت إلى نسخة سوفياتية وأخرى ماويّة. ولا تختلف الرأسمالية في هذا الصدد: ثمة نموذجان منها يسيطران الآن، ويختلفان في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وعدد من الدول الأخرى، مثل الهند وإندونيسيا واليابان، يهيمن شكل ليبرالي من الرأسمالية، قائم على الجدارة: نظام يركز الغالبية العظمى من الإنتاج في أيدي القطاع الخاص، ويسمح ظاهرياً للمواهب بالصعود، ويحاول أن يضمن الفرصة للجميع من خلال تدابير مثل التعليم المدرسي المجاني والإعفاء من ضرائب الميراث. وإلى جانب هذا النظام، يقف النموذج السياسي للرأسمالية، الذي تقوده الدولة وتمثله الصين، ولكنه يظهر أيضاً في أجزاء أخرى من آسيا (ميانمار وسنغافورة وفيتنام)، وأوروبا (أذربيجان وروسيا)، وأفريقيا (الجزائر وإثيوبيا، ورواندا). ويتميز هذا النظام بالنمو الاقتصادي المرتفع وبأنه يحد من الحقوق السياسية والمدنية الفردية.
ينخرط هذان النوعان من الرأسمالية -اللذان تمثل الولايات المتحدة والصين، على التوالي، مثاليهما الرائدين- في منافسة دائمة مع بعضهما بعضا لأنهما متشابكان للغاية. وتبقى آسيا وأوروبا الغربية وأميركا الشمالية، التي تضم مجتمعة 70 في المائة من سكان العالم وتقدم 80 في المائة من ناتجه الاقتصادي، على اتصال دائم من خلال التجارة، والاستثمار، وحركة الناس، ونقل التكنولوجيا وتبادل الأفكار. وقد ولدت هذه الروابط والاصطدامات منافسة بين الغرب وأجزاء من آسيا، والتي أصبحت أكثر حدة بسبب الاختلافات في نماذج الرأسمالية الخاصة بكل منهما. وستكون هذه المنافسة -وليس منافسة بين الرأسمالية ونوع من نظام اقتصادي بديل- هي التي تشكل مستقبل الاقتصاد العالمي.
في العام 1978، جاء حوالي 100 في المائة من الناتج الاقتصادي الصيني من القطاع العام؛ لكن هذا الرقم انخفض الآن إلى أقل من 20 في المائة. وفي الصين الحديثة، كما هو الحال في البلدان الغربية الرأسمالية الأكثر تقليدية، توجد وسائل الإنتاج في الغالب في أيدي القطاع الخاص، ولا تفرض الدولة قرارات بشأن الإنتاج والتسعير على الشركات، ومعظم العمال عاملون بأجر. وتسجل الصين علامات كرأسمالية إيجابية في جميع هذه المجالات الثلاثة.
ليس للرأسمالية الآن منافس، لكن هذين النموذجين يَعرضان طرقاً مختلفة بشكل يعتد به لهيكلة القوة السياسية والاقتصادية في المجتمع. وتمنح الرأسمالية السياسية استقلالية أكبر للنخب السياسية بينما تعد بمعدلات نمو مرتفعة للناس العاديين. ويقوض النجاح الاقتصادي للصين ادعاء الغرب بوجود رابط ضروري بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية.
تتمتع الرأسمالية الليبرالية بالعديد من المزايا المعروفة، وأهمها الديمقراطية وسيادة القانون. وتشكل هاتان الميزتان فضائل في حد ذاتهما، ويمكن أن يُنسب إلى كليهما الفضل في تشجيع تنمية اقتصادية أسرع عن طريق تشجيع الابتكار والحراك الاجتماعي. ومع ذلك، يواجه هذا النظام تحدياً هائلاً: ظهور طبقة عليا تديم نفسها ذاتياً، مصحوبة بتزايد اللامساواة. ويمثل هذان المظهران الآن أخطر تهديد لبقاء الرأسمالية الليبرالية على المدى الطويل.
في الوقت نفسه، تحتاج حكومة الصين وحكومات الدول الرأسمالية السياسية الأخرى إلى توليد نمو اقتصادي بثبات لإضفاء الشرعية على حكمها، وهو التزام قسري قد يصبح الوفاء به أصعب باطّراد. ويجب على الدول الرأسمالية السياسية أيضاً أن تحاول الحد من الفساد، الذي يشكل جزءاً متأصلاً من النظام، ومكمله المتمثل في اللامساواة المتسارعة. وسيكون الاختبار الذي يواجه نموذجها هو قدرتها على كبح جماح الطبقة الرأسمالية المتنامية التي غالباً ما تضيق ذرعاً بالقوة المفرطة لبيروقراطية الدولة.
بينما تحاول أجزاء أخرى من العالم (ولا سيما البلدان الأفريقية) تحويل اقتصاداتها وبدء عملية نمو سريع، سوف تذهب التوترات بين النموذجين إلى تركيز أكثر حدّة. وغالباً ما يتم تقديم التنافس بين الصين والولايات المتحدة بمصطلحات جيوسياسية ببساطة، لكنه يشبه، في جوهره، تحرُّكَ لوحين تكتونيين، واللذَين سوف يحدد احتكاكهما كيفية تطور الرأسمالية في هذا القرن.
الرأسمالية الليبرالية
تشكل الهيمنة العالمية للرأسمالية واحدا من اثنين من التغيرات الحِقَبية التي يعيشها العالم. الآخر هو إعادة توازن القوة الاقتصادية بين الغرب وآسيا. لأول مرة منذ الثورة الصناعية، تقترب الدُّخول في آسيا من الدُّخول في غرب أوروبا وأميركا الشمالية. في العام 1970، قدم الغرب 56 بالمائة من الناتج الاقتصادي العالمي، بينما أنتجت آسيا (بما في ذلك اليابان) 19 بالمائة منه فحسب. واليوم، بعد ثلاثة أجيال فقط، تحولت هذه النسب إلى 37 في المائة و43 في المائة على التوالي، في ما يعود الفضل في جزء كبير منه إلى النمو الاقتصادي المذهل لبلدان مثل الصين والهند.
أنتجت الرأسمالية في الغرب تقنيات المعلومات والاتصالات التي مكَّنت موجة جديدة من العولمة في أواخر القرن العشرين، وهي الفترة التي شرعت فيها آسيا في تضييق الفجوة مع “الشمال العالمي”. وقادت العولمة، المترسخة أساساً في ثروة الاقتصادات الغربية، إلى إصلاح الهياكل المحتضرة، وإلى إحداث نمو هائل في العديد من البلدان الآسيوية. وانخفض التفاوت في الدخل العالمي بشكل كبير عما كان عليه في التسعينيات، عندما كان معامل جيني العالمي Gini coefficient (مقياس لتوزيع الدخل، حيث يمثل الصفر المساواة الكاملة، ويمثل الواحد عدم المساواة الكامل) 0.70؛ واليوم، أصبح 0.60 تقريباً. وسوف ينخفض أكثر مع استمرار الدخول في الارتفاع في آسيا.
ولكن، على الرغم من أن عدم المساواة بين الدول قد انخفض، فقد ازداد عدم المساواة داخل البلدان -خاصة في دول الغرب. وقد ارتفع معامل جيني في الولايات المتحدة من 0.35 في العام 1979 إلى حوالي 0.45 اليوم. وهذه الزيادة في عدم المساواة داخل البلدان كانت إلى حد كبير من نتاج العولمة وتأثيراتها على الاقتصادات الأكثر تطوراً في الغرب: إضعاف النقابات العمالية، وفرار الوظائف الصناعية، وركود الأجور.
ظهرت رأسمالية الجدارة الليبرالية في الأعوام الأربعين الماضية. ويمكن فهمها بشكل أفضل بالمقارنة مع اثنين من التنويعات الأخرى: الرأسمالية الكلاسيكية، التي كانت سائدة في القرنين التاسع عشر وأوائل العشرين؛ والرأسمالية الديمقراطية الاجتماعية، التي ميزت دول الرفاهية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية من الحرب العالمية الثانية إلى أوائل الثمانينيات.
على عكس الرأسمالية الكلاسيكية للقرن التاسع عشر، عندما كانت الثروات تُصنع من التملُّك وليس العمل، يميل الأفراد الأثرياء في النظام الحالي إلى أن يكونوا أثرياء برأس المال وبالعمل على حد سواء -أي أنهم يولدون دخلهم من الاستثمارات ومن العمل معاً. كما أنهم يميلون أيضاً إلى الزواج وتكوين أسر مع شركاء من خلفيات تعليمية ومالية متشابهة، وهي ظاهرة يطلق عليها علماء الاجتماع “التزاوج المتجانس”. وفي حين أن الأشخاص في قمة توزيع الدخل في ظل الرأسمالية الكلاسيكية كانوا في كثير من الأحيان مموِّلين، أصبح الكثير من هؤلاء الذين في القمة اليوم من المديرين ذوي الرواتب العالية، ومصمّمي شبكة الإنترنت، والأطباء ومصرفيّي الاستثمار وغيرهم من مهنيّي النخبة. ويعمل هؤلاء الأشخاص من أجل كسب رواتبهم الكبيرة، لكنهم يكسبون أيضاً قدراً كبيراً من الدخل من أصولهم المالية، سواء أكانت من إرث أو من مدخراتهم الخاصة.
في رأسمالية الجدارة الليبرالية، تتميز المجتمعات بأنها أكثر مساواة مما كانت خلال مرحلة الرأسمالية الكلاسيكية، وبأن النساء والأقليات العرقية أكثر تمكيناً لدخول سوق العمل، ويتم استخدام أحكام الرعاية الاجتماعية والتحويلات الاجتماعية (المدفوعة من الضرائب) في محاولة للتخفيف من أسوأ الويلات الناجمة عن التركيزات الحادة للثروة والامتيازات. وقد ورثت رأسمالية الجدارة الليبرالية هذه التدابير الأخيرة عن سلفها المباشر، الرأسمالية الديمقراطية الاجتماعية.
تم بناء هذا النموذج حول العمل الصناعي وتميز بالوجود القوي للنقابات، التي لعبت دورا كبيرا في تقليص عدم المساواة. وقد سادت الرأسمالية الديمقراطية الاجتماعية حقبة شهدت إجراءات مثل مشروع قانون “جي آي” GI Bill (الذي يوفر المساعدة التعليمية لأفراد الجيش وقدامى المحاربين ومعاليهم) ومعاهدة ديترويت للعام 1950 (وهي عقد شامل تفاوضت عليه النقابات للعاملين في صناعة السيارات) في الولايات المتحدة، وطفرات الازدهار الاقتصادي في فرنسا وألمانيا، حيث ارتفعت الدخول. وتم توزيع النمو بالتساوي إلى حد ما. واستفاد السكان من وصول أفضل إلى الرعاية الصحية والسكن والتعليم غير المكلف؛ واستطاعت المزيد من الأسر أن تصعد على السلم الاقتصادي.
لكن طبيعة العمل تغيرت بشكل كبير في ظل العولمة ورأسمالية الجدارة الليبرالية، خاصة مع غربلة الطبقة العاملة الصناعية وضعف النقابات العمالية. ومنذ أواخر القرن العشرين، كانت حصة دخل رأس المال من إجمالي الدخل في ارتفاع -بمعنى أن نسبة متزايدة من الناتج المحلي الإجمالي أصبحت تنتمي إلى الأرباح التي حققتها الشركات الكبرى والأشخاص الأثرياء مُسبقاً. وكان هذا الاتجاه قويا جدا في الولايات المتحدة، ولكن تم توثيقه أيضا في معظم البلدان الأخرى، سواء كانت نامية أو متقدمة. وتشير زيادة في دخل رأس المال من إجمالي الدخل إلى أن رأس المال والرأسماليين أصبحوا أكثر أهمية من العمل والعمال، وأصبحوا يحوزون بالتالي المزيد من القوة الاقتصادية والسياسية. وهي تعني أيضاً زيادة في عدم المساواة، لأن أولئك الذين يجلبون حصة كبيرة من دخلهم من رأس المال يميلون إلى أن يكونوا أغنياء.
توعُّك في الغرب
في حين أن النظام الحالي أنتج نخبة أكثر تنوعا (من حيث الجنس الاجتماعي والعرق على حد سواء)، فقد أنتجت تركيبة الرأسمالية الليبرالية ما كان تعميقاً فورياً للامساواة، وقدمت اللامساواة خلف حجاب الجدارة. وبشكل أكثر منطقية من أسلافهم في العصر المذهَّب Gilded Age (2) يمكن للأثرياء اليوم أن يزعموا أن مكانتهم مستمدة من فضيلة عملهم، بطريقة تحجب المزايا التي اكتسبوها من نظام واتجاهات اجتماعية تجعل من المرونة وإمكانية الانتقال الاقتصادي أكثر صعوبة باطراد. وقد شهدت الأعوام الأربعون الماضية نمو طبقة عليا شبه دائمة، والتي تصبح معزولة بشكل متزايد عن بقية المجتمع. وفي الولايات المتحدة، يملك أكبر عشرة في المائة من مالكي الثروة أكثر من 90 في المائة من الأصول المالية. والطبقة الحاكمة متعلمة تعليماً عالياً، ويعمل الكثير من أعضائها، ويميل دخلهم من هذا العمل إلى أن يكون عالياً. وهم يميلون إلى الاعتقاد بأنهم يستحقون مكانتهم العالية.
تستثمر هذه النخب بكثافة في سلالاتها وفي تكريس السيطرة السياسية. ومن خلال الاستثمار في تعليم أبنائهم، يقوم أولئك الذين في القمة بتمكين الأجيال القادمة من نوعهم للحفاظ على دخل عمل مرتفع والاحتفاظ بوضع النخبة المرتبط تقليديا بالمعرفة والتعليم. ومن خلال الاستثمار في النفوذ السياسي -في الانتخابات، ومراكز الفكر، والجامعات، وما إلى ذلك- يضمنون أن يكونوا هم الذين يحددون قواعد الميراث، بحيث يتم بسهولة تحويل رأس المال المالي إلى الجيل التالي. ويؤدي الأمران معاً (التعليم المكتسب ورأس المال المنقول) إلى استنساخ الطبقة الحاكمة وإعادة إنتاجها.
إن تشكيل طبقة عليا دائمة هو أمر مستحيل ما لم تمارس تلك الطبقة سيطرة سياسية. في الماضي، كان هذا يحدث بشكل طبيعي؛ فقد جاءت الطبقة السياسية في الغالب من الأثرياء، وبذلك كانت هناك بعض وجهات النظر المشتركة والمصالح المشتركة بين السياسيين وبقية الأثرياء. لكن الأمر لم يعد كذلك: أصبح السياسيون يأتون من طبقات اجتماعية وخلفيات مختلفة، والكثير منهم يتقاسمون القليل جداً على الصعيد الاجتماعي، إذا كانوا يتقاسمون شيئاً من الأساس، مع الأثرياء. وقد جاء كل من الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما في الولايات المتحدة، ورئيسي الوزراء مارغريت تاتشر وجون ميجور في المملكة المتحدة، من خلفيات متواضعة، لكنهم دعموا بشكل فعال مصالح الواحد بالمائة.
في الدولة الديمقراطية الحديثة، يستخدم الأغنياء مساهماتهم السياسية والتمويل أو الملكية المباشرة للمراكز الفكرية والمؤسسات الإعلامية لشراء السياسات الاقتصادية التي تفيدهم: تخفيض الضرائب على الدخول المرتفعة؛ تخفيضات ضريبية أكبر؛ مكاسب رأسمالية أعلى من خلال تخفيض الضرائب على قطاع الشركات؛ وعدد أقل من اللوائح، وهكذا. وتقوم هذه السياسات، بدورها، بزيادة احتمالية بقاء الأثرياء على القمة، وتشكل الحلقة النهائية في السلسلة التي تمتد من الحصة الأعلى لرأس المال من صافي دخل بلد ما إلى خلق طبقة عليا خادمة للذات. وإذا لم تحاول الطبقة العليا احتواء السياسة، فإنها ستظل تتمتع بموقف قوي للغاية؛ فعندما تنفق على العمليات الانتخابية وتبني مؤسسات المجتمع المدني الخاصة بها، يصبح وضع الطبقة العليا غير قابل للمساس فحسب.
بينما تخضع النخب في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية القائمة على الجدارة إلى مزيد من الحصار، تشعر بقية المجتمع بالضيق والاستياء. وكان السبب في الضيق من العولمة في الغرب هو الفجوة بين النخبة المكونة من عدد تقليل وبين الجماهير الذين لم يروا فائدة تذكر من العولمة، والذين يعتبرون التجارة العالمية والهجرة -سواء أكان ذلك دقيقاً أم غير ذلك- سببا لعللهم. ويشبه هذا الوضع إلى حد مخيف ما كان يُطلق عليه “تفكك” مجتمعات العالم الثالث في السبعينيات، كما شوهد في البرازيل ونيجيريا وتركيا. فعندما تم ربط برجوازييها بالنظام الاقتصادي العالمي، تُركت معظم المناطق النائية في الخلف. ويبدو أن المرض الذي كان من المفترض أن يصيب الدول النامية فقط قد أصاب الشمال العالمي.
 
*اقتصادي صربي-أميركي، وأستاذ في جامعة مدينة نيويورك. اشتهر بدراسة توزيعات الدخل بعيداً عن حدود الدول أو المناطق ورسم خريطة لهذه التوزيعات عند النظر إلى الاقتصاد العالمي ككل. ويُعرف بأعماله عن توزيع الدخل والتفاوت الاقتصادي. ومن كتبه “الرأسمالية فقط”. يعمل منذ كانون الثاني (يناير) 2014، أستاذاً رئاسياً زائراً في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وكبير الباحثين المنتسبين في دراسة الدخل في لوكسمبورغ. كما يُدرِّس في كلية لندن للاقتصاد ومعهد برشلونة للدراسات الدولية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Clash of Capitalisms: The Real Fight for the Global Economy’s Future
هوامش المترجم:
(1) البلدان المنخفضة low countries هي الأراضي التاريخية حول الدلتا المنخفضة لأنهار الراين وسخيلده والميز، وتضم حالياً بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وأجزاء من شمال فرنسا وغربي ألمانيا. يرتبط هذا المصطلح بالعصور الوسطى المتأخرة وأوروبا الحديثة المبكرة عندما بدأ الحكم المركزي القوي بالتشكل ببطء بينما كان الحكم الإقليمي في أيدي النبلاء أو الأسر النبيلة.
(2) العصر المذهب (Gilded Age): مصطلح يُستخدم للإشارة إلى الفترة الممتدة ما بين العقد السابع للقرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين من التاريخ الأميركي. دخل المصطلح حيز الاستخدام في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وكان مستمداً من رواية للكاتب مارك توين تعود للعام 1873 حملت عنوان “العصر المذهل: حكاية اليوم”، التي حملت طابعاً ساخراً من مشاكل العصر الاجتماعية الخطيرة المقنَّعة بطبقة مذهَّبة من الخارج.