الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مستقبل سورية في انتظار شبابها

مستقبل سورية في انتظار شبابها

14.07.2019
عبدالباسط سيدا


جيرون
السبت 13/7/2019
متى سيكون الفرج؟ هل من أمل؟ سورية إلى أين؟ ما هو المستقبل الذي تتوقعه لسورية؟
هذه الأسئلة وغيرها تُطرح في اللقاءات العامة والخاصة، وغالبًا ما تكون مصحوبة بمسحة من الحزن المجبول بألم مكبوت في أعماق أصحابها.
أما الدوافع لإثارة مثل هذه الأسئلة، فهي تتجسد في الرغبة في الاطلاع، ومعرفة التوقعات التي تخص مصير سورية، بل وجودها، والحرص على وحدة نسيجها المجتمعي، وربما تكون الدوافع متمثلة أيضًا في السعي للتشارك والتعاضد عبر التفكير معًا بصوت مرتفع. ولكن بصورة عامة هناك شعور بالخيبة والإحباط وفقدان الأمل، في ظل واقع القتل الذي حصد نحو مليون سوري، والتهجير الذي شمل نصف السوريين، والتدمير الذي شهدته بلادهم، وتهتّك النسيج المجتمعي الوطني.
ما يضفي المزيد من القتامة على المشهد في منظور السوريين هو انصراف الدول، الشقيقة منها والصديقة، التي كانت تُحسب على مجموعة أصدقاء الشعب السوري، إلى مراعاة أولوياتها، والتنصّل من الوعود اللفظية التي أعلنتها مرارًا وتكرارًا، وتنامي النبرة العنصرية ضد اللاجئين السوريين في دول الجوار، وتحويل قضيتهم إلى مادة لتصفية الحسابات الداخلية، ووسيلة لتسويغ الإخفاقات في مجال الإدارة، والتعتيم على ظاهرة الفساد التي باتت مَعلمًا من معالم دول المنطقة.
بدأ السوريون ثورتهم، والنظام كان في أوج قوته، خاصة على صعيد تبادل شبكة المصالح على المستويين الإقليمي والدولي؛ وامتلاكه الأجهزة الأمنية الكثيرة، المتشعبة والمتداخلة المهمات والأدوار، المتحكمة في مفاصل الدولة والمجتمع، إضافة إلى سيطرته على الجيش الذي كان قد حوّله إلى أداة من أدوات القمع في مواجهة الشعب. ولكن السوريين مع ذلك ساروا في تظاهرات واعتصامات مهرجانية في معظم أنحاء البلاد، وطالبوا بالكرامة والحرية والعدالة. واستمروا في ثورتهم على مدى سبعة أشهر، وهم يتعرضون للقتل والضرب والتنكيل والاعتقالات، ولم يتراجعوا، وكان الاعتقاد أن المجتمع الدولي سيتحرّك، وأن الضمير العالمي لن يتحمّل المزيد من الجرائم بحق السوريين. وما عزز الأمل أكثر هو ما حصل من تغييرات، وإن كانت شكلية، في كل من تونس ومصر واليمن، وإسقاط حكم القذافي في ليبيا. ثمّ تبيّن لاحقًا أن الحسابات الدولية كانت مختلفة بالنسبة إلى الموضوع السوري، ولم تكن الجهود الفعلية التي تُبذل لمساعدة الشعب بمستوى الوعود المعلنة. وعلى الرغم من نجاح السوريين في تشكيل مجلس وطني، كان الأمل أن يكون صوتهم في المحافل الدولية والإقليمية ويقود جهود جمع الطاقات وتركيزها وتوجيهها؛ لم يحصلوا على الدعم المطلوب، بل واجهوا التلكّؤ والتسويف والتشكيك والتدخلات على مختلف المستويات.
وما كان يساهم في تبديد الطاقات، ويصادر إمكانية حدوث تراكمات، هو الافتقار إلى وجود أحزاب قوية تمتلك برامج وطنية متكاملة، أحزاب كان من شأنها مراعاة الخصوصية السورية من جهة التنوع الديني والمذهبي والقومي، وتحرص على إزالة العراقيل التي تحول دون وحدة السوريين وتوافقهم على ما يضمن مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. فالأحزاب الموجودة لم تكن قادرة، نتيجة ضعفها الشمولي تنظيميًا، وفكريًا، وسياسيًا، على مواجهة التحديات، واتخاذ المواقف المسؤولة منها انطلاقًا من المصلحة الوطنية السورية في المقام الأول. أما بالنسبة إلى الأفراد المعارضين الذين ظهروا في المواقع القيادية، سواء في المجلس الوطني أم في الائتلاف لاحقًا، فقد كانوا في معظمهم يعانون من تباين المواقف والرؤى، والاختلاف حول الأولويات، ولا يمتلكون الخبرة السياسية المطلوبة. والأخطر في الموضوع برمته هو أن الجميع التزم العقلية الاتكالية، وتوهموا أن المجتمع الدولي سينجز المهمة عوضًا عن السوريين الذين سيتمكّنون من استعادة بلدهم ومقدراته، وسيعملون معًا من أجل غدٍ أفضل بعد الخلاص من السلطة المستبدة الفاسدة المفسدة.
ولكن الذي حصل لاحقًا أظهر نقيض ما تمناه السوريون. فلم يقدم المجتمع الدولي الدعم المطلوب لحل أزمتهم سياسيًا أو عسكريًا؛ بل تحوّل الموضوع السوري إلى مادة للبازارات والمساومات بين الدول العظمى منها والإقليمية، حتى غدت سورية ساحة مفتوحة أمام الجميع، وأصبحت الحجة أن الأولوية هي لمكافحة الإرهاب، على حين ظل مصدر الإرهاب وراعيه ومروجه المتمثل في النظام ذاته خارج دائرة المساءلة والمحاسبة، هذا على الرغم من الإعلانات والمواقف التنفيسية التي كانت تطلق على ألسنة مسؤولي بعض الدول والمنظمات الدولية.
الوضعية السورية الراهنة بتعقيداتها وتشعباتها لا توحي بأي إمكانية للوصول إلى حلٍ يكون في مصلحة السوريين، ويرتقي إلى مستوى تضحياتهم وتطلعاتهم. فالمعارضة في تشتت مستدام، والقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري منصرفة إلى حساباتها، ولن تكون هناك أي معجزة تنقذ السوريين مما هم فيه؛ ما لم يتحملوا بأنفسهم مسؤولية العمل من أجل مستقبل أفضل لشعبهم وبلدهم. وأمر مثل هذا يستوجب وقتًا كافيًا، وجهودًا مخلصة، يعمل أصحابها بتفانٍ من أجل توحيد وتفعيل طاقات السوريين، الشبابية منها على وجه التحديد، سواء في الداخل أم في الخارج؛ وهذا لن يتحقق من دون مبادرات تنظيمية وطنية، تُنهي المشاريع التجارية الانتهازية التي كانت حتى الآن، وهي المشاريع التي حاول أصحابها التسلق من بوابة منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية، وعبر الأحزاب التي تم الإعلان عنها على عجل، من دون التفكير في الإمكانيات الواقعية لاستمراريتها.
نحن في حاجة ماسة إلى منظمات المجتمع المدني، كما نحتاج إلى المجالس المحلية وإلى الأحزاب الوطنية، ولكننا لن نتمكن من كسب الثقة والمصداقية؛ ما لم تستند تلك المنظمات والمجالس والأحزاب إلى الهمّ الوطني أولًا، لترتقي به إلى مستوى الموجه والهدف.
لقد اكتسب السوريون، بعد تجارب السنوات الطويلة القاسية منذ انطلاقة ثورتهم، الكثير من الخبرات والمعارف. فقد تعرفوا على مجتمعهم وتكوينه وتاريخه وجغرافيته، واطلعوا على أبعاد المشكلات التي يعانيها. كما تعرفوا إلى بعضهم، وتمكنوا بفضل التجارب الحية الملموسة من التمييز بين الجادّين والمتسلّقين، واستطاعوا تحديد بواعث الخلل وطبيعة الأخطاء التي كانت، وازدادوا معرفة بأسس وماهية العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وتوسعت دائرة اطلاعهم عبر امتلاك ناصية اللغات والتقنيات الحديثة في ميدان الاتصالات والتواصل. وكل ذلك ينتظر التأطير والتنظيم والتوحيد. وأمر كهذا يستوجب المبادرة من قبل مجموعة أو مجموعات تمثل النواة الصلبة، في أي مشروع وطني مستقبلي طموح. فليس من الضرورة أن يضم جسم تنظيمي واحد الجميع، بل يمكن بناء منظمات المجتمع المدني وفق الاهتمامات والمناطق. كما يمكن بناء الأحزاب الوطنية وفق التوجهات الفكرية والسياسية المختلفة. ولكن في المحصلة يمكن إدراج كل هذه الجهود في إطار تجمع أو تحالف وطني شامل. أما أن نسعى كأفراد لبناء هكذا تحالف، أو الدعوة إلى مؤتمر وطني، وذلك اعتقادًا منّا بأن ذلك يختزل المسافات، ويوفر الوقت والجهد، فهذا أمرٌ أثبت عدم واقعيته، على الرغم من اللقاءات والمتابعات العديدة التي كانت من أجل ذلك.
المحنة السورية ستطول، وستأخذ المزيد من الوقت؛ ما لم يبادر السوريون بأنفسهم إلى التمسك بحقهم المشروع في تحديد مصيرهم ومستقبلهم.
ولكن في حال الاستسلام لواقع الحال القائم، والقبول بدور الأدوات في مشاريع الآخرين أو واجهة لها، فإن كل الاحتمالات السوداوية تمتلك قابلية التحقق، بما في ذلك التقسيم الذي ما زال السوريون في غالبيتهم يجمعون على رفضه.