الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "مسيرة الوحدة" في باريس… وأين الأسد؟

"مسيرة الوحدة" في باريس… وأين الأسد؟

14.01.2015
توفيق رباحي



القدس العربي
الثلاثاء 13-1-2015
بين تاريخ الإعلان عن تنظيم "مسيرة الوحدة" بالعاصمة الفرنسية باريس وتاريخ تنظيمها يوم الأحد، وبينما كان قادة العالم يتسابقون لتسجيل اسمائهم في قوائم المشاركة، سقط العشرات من الأبرياء في إرهاب لا يختلف في دناءته عن ذلك الذي ضرب باريس وراح ضحيته عُزّل.
على سبيل المثال لا الحصر، قُتل نحو عشرين شخصا في سوق بنيجيريا في تفجير انتحاري قالت التقارير الإخبارية إن طفلة في العاشرة نفذته. وقـُتل عشرة لبنانيين في تفجير انتحاري استهدف مقهى في طرابلس بشمال البلاد. وقـُتل كثيرون في سوريا والعراق حتى فقدت البشرية القدرة على إحصائهم. ولقي آخرون حتفهم في مخيمات اللجوء متأثرين بموجة البرد القارس التي تجتاح دولا تأويهم، بينهم أطفال.
على الرغم من أن الوقائع المذكورة آنفا توفرت على اسباب الإثارة الإخبارية مثل الطفولة والعنصر النسوي والطائفية وشعارات الإسلام والجنة والجهاد، لم يسمع العالم عن الضحايا شيئا كثيراً لأنهم راحوا ضحية (مرة أخرى) ما شهدته باريس: لا تقارير إخبارية تفيض دموعا وعواطف، لا بيانات وخطابات تنديد ولا مسيرات حاشدة بالآلاف والملايين. مجرد عناوين إخبارية سريعة مضت محتشمة كأنها تستحي من البقاء وقتا أطول.
فقط لأنهم ليسوا غربيين فلا أحد رثاهم أو أوقف الزمن بكاءً عليهم. لكن في باريس توقف الزمن على أيدي عشرات القادة والرؤساء الذين شدوا الرحال إليها معبرين عن نفاق فاضح قبل تعبيرهم عن تعاطف وصداقة مع فرنسا وشعبها على إثر ما ألم بهما.
المسؤولون الأوروبيون حضروا شعوراً منهم بالحاجة للتعبير عن التضامن مع فرنسا. حضروا مخلصي النية والإيمان بضرورة تكاتف الجهود من أجل وقف الخطر الإرهابي المحدق ببلدانهم والقارة الأوروبية.
قادة إسرائيل، على رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حضروا محاولين توظيف مأساة فرنسا لحسابات سياسية داخلية تخص الانتخابات العامة التي ستشهدها إسرائيل في منتصف آذار (مارس) المقبل.
وحضروا حرصاً على حال يهود فرنسا الذين تقدمهم الأخبار، كالعادة، ضحايا هذا "الارهاب الذي يمارسه المسلمون".
ثم يأتي من يطرح حضورهم أكثر من علامة استفهام. كثيرون من الذين ساروا في مظاهرة الدفاع عن الحرية لا يربطهم شيء بالحرية، لا تربطهم أية صلة بأهدافها وشعاراتها. من هؤلاء قادة أفارقة وآسيويون حضروا حتى لا يفوتهم حدث تاريخي، أو يتقرر شيء ما في غيابهم، على الرغم من أن حضورهم لم يكن ليغيّر شيئا كثيراً لو تقرر شيء ما.
عدا هذا، ما الذي يفسر حضور قادة ومسؤولي دول تحتل المراتب الأخيرة في قوائم حرية الرأي والتعبير والتسامح. كان بين الحضور رئيس الغابون عمر بانغو ورؤساء دول النيجر والبنين ومالي ورؤساء حكومات تركيا وإسرائيل وجورجيا ووزراء خارجية روسيا والجزائر والإمارات.
كان يجب حضور الرئيس السوري بشار الأسد لتغلق الدائرة فيحفظ التاريخ أنها كانت مظاهرة الجميع بلا استثناء.
مَن المسكين الذي سيصدّق أن كل هؤلاء جاؤوا إلى باريس دفاعا عن الحريات والقيم الغربية؟ مَن سيمنع أي عاقل من الاعتقاد أنهم وجدوا في ما عاشته باريس فرصة انقضوا عليها خدمة لمآرب سياسية داخلية؟
فوق كل هذا، حضر القادة والوزراء العرب بسبب ظروف وضعتهم في مواقف غير مريحة تشبه تلك التي أعقبت تفجيرات أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة عندما خيّرهم الرئيس جورج بوش الإبن بين أن يكونوا مع أمريكا أو ضدها.
دون أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى، ودون أن ترقى شخصية الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند إلى شخصية بوش المثيرة للجدل، ودون انتظار دعوة أو تهديد، وجد القادة العرب والمسلمون أنفسهم مضطرين للمشاركة في مسيرة باريس أو إلى إرسال من ينوب عنهم، فالتقت المتناقضات لتجعل من تلك المظاهرة هجينا.
تصرف هؤلاء القادة مثل عامة الناس من عرب ومسلمين في الغرب عموما وفرنسا خصوصا عندما يشعر كل واحد منهم بأنه مُطالـَب بتقديم اعتذار عما حدث لمجلة شارلي إيبدو والأحداث اللاحقة، أو التزود بوثيقة حسن سيرة تكون بمثابة شهادة براءة من "الإرهاب الإسلامي" وإعلان إخلاص للمجتمع والقيم الغربية يقدمها لكل صاحب نظرة مشبوهة.
مرة أخرى، الذي حدث في فرنسا منذ الأربعاء الماضي شأن فرنسي محلي محض. هو ثمرة إخفاق فرنسي داخلي متعدد الأوجه: سياسي، ثقافي، اجتماعي، أمني وكل شيء. لا علاقة للإسلام والمسلمين به إلا من حيث الشعار المرفوع.
يصعب على أي محلل موضوعي تجاهل أن ذلك الحضور الكثيف يصب في خدمة الرئيس أولاند وأنه من شبه المستحيل أن يقاوم إغراء توظيفه في حسابات السياسة الفرنسية الداخلية وحى الخارجية.
هنيئا للرئيس فرانسوا أولاند.. وصلته هديتا أعياد الميلاد في آن واحد وإن متأخرتين: الإرهاب ومظاهرات رؤساء العالم الذين لا يذكر التاريخ الحديث أنهم التقوا بذلك العدد في مناسبة كهذه.
٭ كاتب صحافي جزائري