الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مصائر التطرف والصراع ضد الإرهاب

مصائر التطرف والصراع ضد الإرهاب

13.01.2014
د. رضوان السيد


الاتحاد
الاحد 12/1/2014
بدأت الدائرة تدور على المتطرفين في سوريا والعراق. وفي الحالتين يبدو أهل السنة أو العشائر أو كتائب "الجيش الحر" هم الذين يقومون بضرب هؤلاء المتطرفين وإخراجهم من الديار التي اقتحموها وأساؤوا للناس في دينهم وعيشهم وجوارهم وحياتهم الخاصة والعامة. وهذا أمر كان ينبغي أن يتم قبل مدة، لأن هؤلاء بعشوائيتهم واختراقاتهم وجبروتهم أساؤوا بالفعل إلى القضايا العادلة للناس في سوريا والعراق. بمعنى أن الأسد والمالكي ونصرالله والأميركيين والروس والإيرانيين... اتّخذوا من وجود هؤلاء وإساءاتهم ذرائع لقتل المسلمين وغير المسلمين بحجة أنهم إرهابيون أو تكفيريون أو أنهم يدعمون الإرهابيين والتكفيريين. وأحسب أنه نتيجة اجتماع هذه المواقف للتصدي للمتطرفين على صعوبتها واختلاط الأمور، ستُدخلُنا بالتدريج في موقف جديد، يسهِّل على مجتمعاتنا استعادة سُلَّم قيمها، وإنكار الموت والقتل من أي جهة أتى ولأي سبب. فالاضطرابُ الذي حصل في اجتماعنا الإنساني في العقود الأخيرة، يحتاج منا إلى وقفة صارمة لمواجهة العنف باسم الدين لأي سبب كان.
بيد أن الغضب الثائر في صفوفنا على جرائم المتطرفين، وعلى إساءتهم لقضايانا العادلة، لا ينبغي أن يُنسيَنا الأسباب التي صعَّبت وتُصعب الخلاص منهم، ليس بقتلهم بل بـ"تجفيف المنابع" أي الحيلولة دون نشوء أجيال جديدة، بمنْع الأسباب والعلل من جهة، وبالتربية الأخرى من جهة ثانية.
أولى الصعوبات التي أسهمت في إنتاج الجيل الأول من المتطرفين -وأتحدث هنا عن المتطرفين وليس المتشددين وسأعود للفرق بينهما- هي أنهم وجدوا استخداماً سياسياً وعسكرياً من الأميركيين والمخابرات الباكستانية في أفغانستان خلال الثمانينيات. ففي كل الأديان متشددون، وبعضهم مستعد للانزلاق نحو العنف. لكنهم لم يجدوا جهة فاعلة وقادرة تدعمهم. أما الظاهرتان العنيفتان الرئيسيتان باسم الإسلام في المنطقة، فهما "القاعدة" ومتفرعاتها، والتي دعمتها الولايات المتحدة والمخابرات الباكستانية، و"حزب الله" الذي تدعمه منذ نشوئه إيران. إن المشكلة الكبرى في ذلك الدعم للمتطرفين، هي في أن الأمر لم يقتصر على دعم "المجاهدين" الأفغان لتحرير أرضهم من المحتلين الروس؛ بل شمل جَمْع شبان من مختلف أنحاء العالم الإسلامي على أرض المعركة بأفغانستان، ومن هناك انتشروا في كل زاوية ومكان: لقد صارت هناك "عالمية جهادية" سنية اصطنعها الأميركيون، وقلدهم ويقلدهم فيها الإيرانيون بجمع أو صُنْع "عالمية شيعية" لاصطناع "أمة شيعية" منفصلة أو مناطق نفوذ في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي. وهكذا تكررت على مدى العقدين الماضيين، لدى السنة والشيعة، التجارب التي تحاول تقليد التجربة الرائدة لأميركا مع "القاعدة"، ولإيران مع "حزب الله". ولو راقبنا بدقة "سحر التجربة" لدى الطرفين لأدركْنا مدى الهول والفظاعة التي حصلت بتخطيط من الأميركيين والإيرانيين. ولعل الأميركيين لم يدركوا خطورة ما كانوا يقومون به أو لم يتوقعوا أنهم سيفقدون الضبط والربط وفرض إنهاء التنظيم بعد نهاية العملية. أما الإيرانيون فيعتبرون تجربتهم مع "حزب الله" أهمَّ من الملف النووي في ضرورة الاحتفاظ به! ومن الطبيعي مع هذه "الاستماتة" في الاحتفاظ بالتنظيم لدى الطرفين، ولو بعد انتهاء دوره، أن تنبعث روحٌ هائلة من التشدد والتطرف تبرر الاستمرار والتصاعد. فـ"داعش" تريد تطبيق الإسلام بحذافيره وتكفير كل الآخرين، وإقامة الدولة الإسلامية اليوم وليس غداً ولو في قرية سوريا مدمَّرة ببراميل النظام المتفجرة! ويكون أول ما يخطر ببال مقاتليها (الأشاوس) اضطهاد غير المسلمين، واضطهاد المسلمين لعدم تربية لحاهم، وتقديم مكافحة البدَع على مكافحة الأسد أو المالكي. وعبْر ضيق الأُفُق هذا يدخل عليهم سليماني والمالكي والأسد ويعيدون توجيههم بحيث يقتلون المسلمين الآخرين ويقتلون أنفسهم. وإذا كان هذا مألوفاً لدى انشقاقيي السنّة، أي زيادة التطرف عند كل محطة؛ فقد حصل ذلك عند "حزب الله" و"أبي الفضل العباس"، عندما رأوا في الثورة السورية خطراً "وجودياً" على المذهب الشيعي، وتحدثوا عن هدم "التكفيريين" للمزارات الشيعية، لإثارة العامة من الشيعة. وقد قرأتُ للمالكي خطاباً بكربلاء يقول فيه إنّها ينبغي أن تكون قبلة يجري التوجه إليها خمس مرات مثل القبلة الأُخرى، وإن التكفيريين يهددون زوارها، فكأنهم يهددون القبلة والدين. وهذا تطرف مصَطنَع بالطبع المقصود به إثارة العامة ضد المسلمين الآخرين لأسباب سياسية داخلية، واستراتيجية إيرانية. وهناك تطور جديد آخر في الظاهرة الانشقاقية لدى السنّة والشيعة، وهي أن الانشقاقين بسبب زيادة التطرف المذهبي يصطدمان الآن اصطداماً مدوياً. وقبل أسابيع عاتب نصر الله "القاعدة" وأنصارها قائلا إنّ مناطق "الجهاد" كانت مقسَّمة، فلماذا تأتون إلى "مناطقنا"؟! وهو يتجاهل بذلك أنه هو وإيران بتصرفاتهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان أثاروا الموجة "الجهادية" الثانية عند السنّة وكلها ضدهم وليس ضد أميركا كما كانت الأولى!
أما الصعوبة الأُخرى فتتمثل في استمرار الأسباب التي تدفع لظهور أجيال جديدة من المتطرفين. فلدى "الجهاديين" السنّة، هناك الاضطراب الذي نشرته حركات التغيير العربية، والذي أطمع المتطرفين المقاتلين والتنظيميين بإمكان الوصول للسلطة أو صُنْع مناطق نفوذ. ثم إن حركات التغيير والثورات ما استطاعت إزالة كل المستبدين من أهل الجمهوريات الوراثية، وهؤلاء مارسوا ويمارسون العنف المفرط وغير المعقول أحياناً مثلما يحدث في سوريا. ويدفع ذلك شباناً كثيرين للالتحاق بساحات القتال تارةً للدفاع عن الدين، وطوراً لتحرير وطنهم إن كانوا من السوريين والعراقيين. أمّا "حزب الله" فعنده أسبابه للاستمرار في الكفاح بطلب من إيران، لأنه نموذج ناجح، وخدم إيران كثيراً. ولأن الشبان الشيعة في البلاد العربية يشعرون باعتزاز فائض القوة المستجد فهم يسارعون للانخراط تحت راية الحزب.
وهناك صعوبة ثالثة أو سبب ثالث، ويتمثل في "صناعات التطرف والإرهاب" لعلل مختلفة. فقياديو "جبهة النُصرة" بسوريا أخرجهم النظام السوري من السجون بعد بدء الثورة. ومقاتلو "داعش" جاءوا من العراق ومن سجون النظام هناك. وهم لم يحرروا منطقة بل تمركزوا في المناطق التي حررها الثوار. ثم إنهم إلى جانب الإساءة للناس، أقبلوا على تفجير السيارات التي تقتل كثيرين من المدنيين المارّين حتى لو كان الهجوم ضد جهة أمنية. فالذي أعنيه بهذا السبب ليس أنه يخلق جيلا جديداً شأن السببين الأولَين؛ بل هو يطيل عمر الظاهرة بشكل مصطنع، ويحاول إطالة عمر نفسه بحجة مكافحة الإرهاب.
وهكذا فإن الحرب الثانية التي بدأها المسلمون على الإرهابين السني والشيعي، هي حرب شديدة الصعوبة، لأنها تجري داخل المجتمعات، وليس بين الثوار والنظام وقد صارا غريبين عن بعضهما. فلابد بالطبع من نجاح في هذه الحرب، لكي يتسنى إقامة أنظمة للحكم الصالح، توفّر الفرصة لفك الاشتباك بين الدين والدولة، وهو الاشتباك المستمر منذ خمسة عقود. ويكون علينا البدءُ الآن في العمليات التربوية، المُخرجة من عقائديات الولاء والبراء القاسية على الآخر، أياً يكن هذا الآخَر.