الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مصير "الربيع العربي" رهن بالتعلم من الأخطاء

مصير "الربيع العربي" رهن بالتعلم من الأخطاء

09.02.2015
وحيد عبدالمجيد



الحياة
الاحد 8-2-2015
تعلم البشر على مدى تاريخهم من بعضهم بعضاً. وتوسع نطاق التعلم المتبادل في العصر الحديث، بعدما أخذ العلم يتقدم وضوء العقل يسطع في أوروبا. غير أن هذه القاعدة العامة لا تنطبق على الثورات الشعبية التحررية العفوية التي يُعد "الربيع العربي" جيلاً سادساً فيها منذ ثورة 1789 الفرنسية. لم تتعلم ثورة من أخرى إلا في ما قل وندر، وإن كان بعض الثورات ألهم غيره.
لذلك، أخذ معظم الثورات من هذا النوع المسار المضطرب المتعرج نفسه، لكنْ بأشكال مختلفة وفي ظروف متغيرة. لم تتعلم ثورة من أخرى اختصار هذا المسار أو تجنب أسوأ محطاته. وينطبق ذلك على الثورات العربية التي بدأت متعثرة في خطواتها الأولى. وهي تُعد بين الأسرع في تعثرها في تاريخ هذا النوع من الثورات، لأن عفويتها كانت كاملة بخلاف مزاعم مفارقة للعقل عن مؤامرات دبرها شبان دعوا إلى تظاهرة في 25 يناير 2011 للاحتجاج على انتهاكات أمنية فاقت كل حد.
وعندما تنفجر ثورة عفوية نتيجة غلق أبواب الإصلاح، ومن دون تدبير أو تخطيط، لا بد أن تعتمد التجريب في غياب خطة توجهها وقيادة تقوم عليها. وينطوي أي تجريب، بطابعه، على أخطاء يصعب وربما يستحيل تفاديها في عمل يحدث للمرة الأولى، ولا يملك فاعلوه خبرة سابقة فيه.
وبشيء من التبسيط والاختزال، تبدو الثورة الشعبية محاولة لمعالجة جسم مريض بواسطة من لم يدرسوا الطب. فالثورة تحدث بعدما تتكالب الأمراض على المجتمع (الجسد)، وتشتد قسوة من أمرضوه (حكامه) بسياساتهم التي تجرّفه وتُفقره، ويرفضون الإصلاحات اللازمة لمعالجته. وقد يسخرون ممن يُنبهونهم إلى الخطر كما فعل الرئيس المخلوع حسني مبارك عندما قال عن معارضين كونوا ما أسموه برلماناً شعبياً: "خليهم يتسلّوا" (دعهم يتسلّون).
كان ذلك في خطاب ألقاه في افتتاح مجلس الشعب الذي شهدت انتخاباته تزويراً فجاً غير مسبوق في نهاية 2010، وقبل أسابيع من التظاهرة التي دعا إليها بعض الشباب في اليوم الذي تحتفل فيه الشرطة بعيدها. وكان سقف المطالب في هذه التظاهرة إقالة وزير الداخلية وإصلاح جهاز الأمن، قبل أن يتبين أن الغضب الشعبي بلغ ذروته، والتراكم الكمي للمظالم والأزمات بلغ المبلغ الذي يقود إلى تحول نوعي. هكذا، تحولت تظاهرة كان متوقعاً أن تنتهي بعد ساعات، مثلما حدث في عشرات التظاهرات التي سبقتها مذ بدأت الاحتجاجات تجد طريقها إلى الشارع عام 2005، إلى ثورة شعبية تحررية حملت مشاعل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وحين يحدث ذلك، يصبح مطلوباً ممن يتدافعون لإنقاذ المريض (المجتمع) أن يعالجوه من دون أن تكون لديهم دراية بالطب، أو خطط مُعدة مسبقاً بواسطة أطباء معالجين. لذلك، من الطبيعي أن لا يعرفوا ما الذي ينبغي فعله حين ينجحون في تخليص المريض (المجتمع) من أيدي الطغاة الذين أمرضوه، ولا يدرون الطريق الملائمة لمعالجته، وهل يحتاج إلى أدوية، وما هي، أم تتطلب حالته إجراء جراحة، وما نوعها. وهم، فوق ذلك، يختلفون ويتصارعون فتزداد آلام هذا المريض (المجتمع) الناتجة عن أمراضه الأصلية التي لم يتسببوا فيها، بل كانوا هم الذين تطوعوا سعياً لإنقاذه منها.
وهكذا يحدث الاضطراب الضروري في بداية الثورات، وتكثر أخطاء الثُوَّار، فيضج المريض (المجتمع) بسبب ازدياد آلامه، ويبدو لبعض القطاعات أن وضعها كان أقل سوءاً قبل الثورة، لأن الاضطراب الذي يترتب عليها يؤدي إلى تفاقم الآلام.
وعندئذ تزداد فرص من أمرضوا المجتمع سابقاً، أو بعضهم، في العودة مدَّعين أنهم هم الذين يستطيعون معالجته لامتلاكهم الخبرة التي تنقص من أسقطوهم. ويحدث ذلك في لحظة يسودها توتر والتباس شديدان يعطّلان اكتمال الوعي الذي بدأ في اللحظة الثورية.
لذلك تظل القوى المضادة للثورة، أو ما يسميه البعض "الثورة المضادة"، جزءاً لا يتجزأ من ملامح أي مسار ثوري تحرري غير إقصائي واستئصالي، إلى أن تبدأ القوى صاحبة المصلحة في إكمال هذا المسار وصولاً إلى غاياته في التعلم من أخطائها.
وليس غريباً، والحال هكذا، أن تتصدر القوى المضادة المشهد لفترة يختلف مداها من حالة إلى أخرى، ويعود بعض أركان النظام الذي اندلعت الثورة ضده إلى مواقع مختلفة في السلطة، أو يُعاد إنتاج الأوضاع التي استهدفت الثورة تغييرها مع إضفاء شكل جديد New Look عليها عبر تحالف يجمع شبكات مصالح قديمة وأخرى جديدة، أو عبر سلطة على النمط "البونابرتي" الشعبوي (الذي يعود إلى فرنسا لويس بونابرت في الربع الثالث من القرن 19 ويقوم على الادعاء أن السلطة ليست طرفاً في الصراع بين قوى الثورة والقوى المضادة لها، وإنما هي فوق الجميع وللجميع في آن، وأنها تخاطب الشعب بصفته كتلة مصمتة في شكل مباشر). وقد يحدث في بعض الحالات أن تتفاقم الصراعات وتجرف المجتمع إلى صدام عنيف. وربما يقود هذا إلى حرب أهلية أو ما يشبهها.
ويبدو المشهد في البلدان العربية التي شهدت ثورات، مزيجاً من هذا كله بعد أربع سنوات على اندلاع الثورات، بانتظار أن يتعلم أنصارها من أخطائها التي فاقمها الاستقطاب بين القوى المدنية والدينية، واختلاطه بالانقسام المجتمعي (العشائري – الجهوي) في ليبيا واليمن، وارتباطه بتدخل المؤسسة العسكرية في مصر.
وإذا كانت حركة النهضة التونسية صححت بعض أخطائها قبل فوات الأوان، فما زال الاستقطاب شديداً ومعطَّلاً للمسار التحرري، ولكن بدرجة أقل مما أدى إليه جموح "الإخوان" في مصر والمخاوف الهائلة التي أثارتها، مثلما فعل الشيوعيون في ثورة 1848 الفرنسية. فقد أدى استغلال "الإخوان" ثورة 2011 للقفز على السلطة إلى هزة ارتدادية قوية لا تختلف في جوهرها عن تلك التي ترتبت على محاولة الشيوعيين استغلال دخول الطبقة العاملة على خط ثورة 1848.
هكذا، تظل معضلة الإسلام السياسي عموماً، وفي مصر خصوصاً، معطلة للمسار التحرري بعد أربع سنوات على الثورات، إلى أن يستوعب أصحاب المصلحة في إكمال المسار دروس الصراعات المترتبة عليها، ضمن ما سيتعلمونه من أخطائهم في وقت قد لا يكون قريباً، ولكنه قد لا يكون بعيداً.