الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مضايا.. من لم يمت بالجوع

مضايا.. من لم يمت بالجوع

16.01.2016
سعدية مفرح



العربي الجديد
الخميس 14/1/2016
من لم يمت بالبراميل المتفجرة مات بالصواريخ البالستية، ومن نجا من الإثنين مات تعذيباً في المعتقلات أو تصفية في بلاد الهجرة، أو قصفاً بطائرات العدو الذي أصبح صديقاً، أو تفجيرات في السيارات المفخخة، أو غرقاً في البحار المؤدية إلى بلدان اللجوء. ومن كتبت له النجاة من كل ذلك الموت المتعدد اعتصاماً في قريته، بعيداً عن أسلحة الموت المباشر، ها هو الآن يموت جوعاً.. نعم جوعاً حقيقياً، وفي القرن الحادي والعشرين.
وفي أحوال الموت السوري وأهواله ما هو أبعد وأقسى من ذلك، ما دام السيد الرئيس قد قرّر البقاء رئيساً إلى أبد الآبدين، فكل شيء يهون في سبيل حفاظه على كرسيه المتعفن، والطافي على أنهار جارية من دماء شعبه المنكوب.
لكن، لا أسوأ من الموت السوري غرقاً على شواطئ اللجوء الذي ودعنا به العام 2015 سوى الموت جوعاً في قراهم المحاصرة مع بداية العام 2016.. و"للموت وجه على علاته حسن"، ولعل أحسن ما في وجه الموت السوري أنه كشف القناع الأخير لمن ما زال يراهن، بحجج مختلفة، على شرعية النظام السوري وأعوانه.
ولا أسوأ من هذا الموت، بكل أشكاله الآنفة الذكر، سوى شماتة الشامتين بضحاياه، والذين تباروا في استعراض صور أطباقهم الشهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مهرجان من الدناءة الإنسانية في أحط مستوياتها وأكثرها وضاعة، تحت شعار مناصرة حصار الجوعى، في سبيل مزيد من التجويع، من أجل السيد رئيس النظام "العلماني"، ورفيقه السيد رئيس الحزب "الديني".
منذ ستة أشهر، وأهل بلدة مضايا السورية، المحاصرة من النظام وحليفه حزب الله، عقاباً لهم باعتبار مضايا من أوائل البلدات السورية التي أعلنت تأييدها الثورة ضد النظام منذ البداية، يتآكلون حرفياً، بعد أن نفد كل ما لديهم من زاد، وبعد أن اضطروا لأكل الأخضر واليابس، وما يؤكل وما لا يؤكل. ولم ينتبه العالم إلى أن هناك بشراً يموتون بفعل الجوع الحقيقي، إلا بعدما انتشرت تلك المقاطع المصوّرة لأطفالٍ بعظام بارزة، وأعين غائرة، وأصوات واهنة، يناشدون بها العالم أن ينقذهم، ولو بكسرة خبز. وقبل التوصل إلى اتفاقٍ يوصل كسرة الخبز هذه إلى بلدة الجوع أخيراً مات العشرات، إن لم يكن المئات، من سكانها فعلاً، ليكونوا شهوداً، بموتهم، على أن الجوع ما زال سلاحاً قاتلاً للبشر الذين وصلوا إلى القرن الحادي والعشرين، ولم يتخلصوا بعد من شهوتهم الأولى في القتل.
ذاق السوريون، على مدى الأعوام القليلة الماضية، ومنذ قرّروا مواجهة طاغيتهم، في سياق ثورات الربيع العربي، كل أنواع الموت تقريباً، حيث أبدع نظامهم في ابتكار ما لا يخطر على بال القتلة المحترفين من أساليب غير مسبوقة على الصعيدين الفردي والجمعي. وفي كل مرة، يشعر هذا النظام أن أدواته في القتل استهلكت، ولم تعد تبهر العالم، استعان برفاقه في الداخل والخارج، أرضاً وسماءً، ففي الوقت الذي طمأنه حزب الله على استمرار قوافل الموت الشعبي على الأرض، تكفلت روسيا، باستمرار، بالموت المرسل على هيئة قنابل وصواريخ.
يحدث هذا على مسمع العالم ومرآه ومراقبته، بمنظماته الحقوقية والإنسانية وبكل نظرياته الأخلاقية التي لم تستطع الصمود أمام نظرات الأطفال الجائعة في قراهم المحاصرة، ولا صرخاتهم المخنوقة تحت الأنقاض، بعد كل غارة جوية، ولا دموعهم التي كان ينبغي لها أن تغرق العالم خجلاً، لو كان هذا العالم يعرف ما هو الخجل.
ويحدث هذا في سبيل حسابات سياسية معقدة، لا نتيجة حقيقية لها، في نهاية الأمر، سوى بقاء حكم الطاغية بضع سنوات إضافية، يحلم إما أن تكون إلى الأبد أو لا أحد. وليس مهماً بالنسبة له إن كان سيحكم وطناً حياً بشعب من لحم ودم، أم مقبرة مليئة بالجماجم والعظام.