الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معجزة البدايات في دمشق: حين أفسح لي ضابط الأمن الطريق

معجزة البدايات في دمشق: حين أفسح لي ضابط الأمن الطريق

02.01.2014
محمد دغمش


الحياة
الاربعاء 1/1/2014
قبل منتصف ليل الجمعة ٢٥ آذار (مارس) ٢٠١١، أي بعد أيام فقط من انطلاق الثورة السورية، عادت لجنةُ التفاوضِ مع النظام إلى ساحة بلدية دوما المكتظة بالمعتصمين، وقف رجل خمسيني يعتبر من وجهاء المدينة على كرسي خشبي وسط المعتصمين - لم يكترث أحد - صاح بأعلى صوته "كرمال الله سمعوا، قعدوا بالأرض ليسمعني الكل". بعد دقائق من تكرار الدكتور، كما كان يلقبه المتظاهرون، لطلابه وصراخه سكنت الهتافات، حُبست الأنفاس، آلاف الأعين توجهت إليه لتصغي لنتائج المفاوضات مع ضابط في القصر الجمهوري، وهو عميد من آل الحريري من أبناء دوما، أرسله الأسد شخصياً ليفض الاعتصام لما له من مكانة بين أهالي مدينته. افترش قرابة الألفي متظاهر الأرض وجلست معهم، بدأ الدكتور بسرد بنود الاتفاق النهائي لتسوية الأزمة المستمرة منذ ظهر اليوم:
أولاً- وعدونا بالإفراج عن متظاهري دوما الذين اعتقلوا الجمعة الماضية ومن اعتقل ظهر اليوم فوراً وسترونهم هنا بعد قليل.
ثانياً- سيعين رئيس بلدية جديد لدوما... قاطعه المتظاهرون بعبارات (كذابين كذابين ... كذابين كذابين) عادت المحاولاتُ مرة اخرى لإقناع المتظاهرين بالانصات، هذه المرة تطلب الأمر اكثر من 15 دقيقة، وعاد الدكتور للحديث.
ثالثاً -وعد الرئيس شخصياً انه سيلغى قريباً قانون الطوارئ . لأجزاء من الثانية بدأت عشرات الأسئلة تطرق رأسي بعد أن ذُكر هذا البند "الحلم"،... احدها ما زلت اندم عليه. بالتأكيد سيُفض الاعتصام. بدأت بحساب خط العودة إلى دمشق ... أنا لست من دوما ولا حجة لي للتواجد هنا، وكي أعود إلى دمشق عليّ المرور من أمام عناصر الأمن المتكدسين والمستنفرين حول الساحة وحول دوما كلها ... بالتأكيد سينقضون لالتهامي لقمة سائغة أنا وصديقيّ طه المحمد ومطر إسماعيل اللذين يقطنان أيضاً في دمشق". ما أن أكمل الدكتور عبارة "خلينا هلأ نرجع لبيوتنا بعد ما يفرجوا عن المعتقلين" حتى نهض شاب من دوما صاح بصوتٍ لن أنساه ما حييت: "مين قلك بدنا معتقلينا؟ نحنا هون مو كرمالهم، لك درعا محاصرة وبدك نرجع على بيوتنا؟ لك كذابين كذابين ... بالروح بالدم نفديك يا درعا" ... بعد أن هتف ذلك الشاب بالروح بالدم نفديك يا درعا نهض المعتصمون وكأنهم عاصفة اخترقت حاجزاً كان يعيقها ويكتم أنفاسها، وبدأت الساحة تهتز بصوت واحد: يا بثينة ويا شعبان الشعب السوري مو جوعان. يا قاصف ويا شاليش الشعب السوري بدو يعيش. خاين يلي بيقتل شعبه الله سورية حرية وبس" لم أكن حينها أقوى على الهتاف، فصوتي كان خافتاً وحنجرتي تآكلت لكثرة الهتاف منذ بدء الاعتصام، نفرت دمعة من قلبي قبل عينيّ فرحاً، كان الأمن ينظر إلينا من بعيد وضباطه بمن فيهم المبعوث الخاص العميد الحريري ينظر إلينا من الطابق الثاني في مبنى البلدية المطل على الساحة. شعرتُ بأن خوفي خرج دفعة واحدة من كل مسامة في جسدي المرتعش واستقر دفعة واحدة في صدور الأمن.
كنا كالغرباء عن أنفسنا، وكنا كمن لم ير تقاسيم وجهه سابقاً في المرآة وفجأة وجد نفسه أمام انعكاس مشع وجميل وبراق لصورته، وجد نفسه أمام حقيقة جلية كالشمس. نحن شعب يستحق الحياة، يستحق أن يحلم. كان واضحاً أن المفاوضات فشلت، بعد دقائق هجم عناصر الأمن نحو الساحة، اندفعت بين العشرات إلى المدخل الذي يتعرض للاجتياح، بنينا من أجسادنا حائط صد يمنع الأمن من الدخول. وقف في وجهي شاب لا يبدو أنه عنصر عادي بل يوحي وكانه ضابط شاب، دفعني بعنف وهو يصرخ "الله سورية بشار وبس"، سقطت أرضاً، نهضت ودفعته وأنا أقول "لك الله سورية حرية وبس" لا أعلم من أين أتيت بطاقة للصراخ حينها، مع أن صوتي لم يخرج بهذه القوة حتى في أول دقائق لي في الاعتصام! توقف الزمن لأجزاء من الثانية، شعرت وكأننا نتنافس، من منا مصر على شعاره أكثر. تراجع رجال الأمن أمتاراً... وبدأت قنابل الغاز بالتساقط فوقنا، وبدأ الرصاص العشوائي يتطاير في الهواء وعلى الأرض أمامنا، وكأنه إنذار أخير يسبق مجزرة جماعية. ركضنا، اخلينا مواقعنا، شاهدنا من أمسك بهم رجال الأمن وهم يتعرضون للضرب، يجرون نحو سيارات الأمن لاعتقالهم، سلمنا الساحة فرحين أن الرصاص وحده هو ما سيثنينا عن التظاهر وليس أي تهديد أو وعيد. وقفت أنا وطه ومطر بعيداً، حاولنا الخروج من طريق فرعي، قادنا إلى ما كنا نهرب منه، تجمدت عروقي، فالضابط الشاب ظهر فجأة بين عناصر حفظ النظام وهو يحدق بي وأحدّق به مباشرة، وقفت وأنا أقول لنفسي اليوم سأنام إلى جانب أخي الحبيب ضياء المعتقل منذ أيام في اعتصام وزارة الداخلية في ثاني أيام الثورة. أجزاء من الثانية وعينيّ ترصد نظرة الرجل إلي وأنا طريدة لن تحاول حتى الهروب لانعدام فرص النجاح، سأرفع الراية البيضاء مع أول حركة له نحوي... لم يتحرك... شعرت وكأنه أراد أن يخبرني شيئا، فجأة أشاح عينيه عني وبطريقة مفرطة بالوضوح قال لي بعينيه: اذهب.
من عايش أول أشهر في الثورة ونزل إلى التظاهرات سيشعر بكل ما أردت البوح به، سيحضنني ويبكي بشهقة لأن هذه الثورة باتت اليوم مهددة بالزوال، مهددة بالتلاشي ولن تنفع حينها كل الانتصارات العسكرية التي قد يحققها من يحارب النظام باسترداد ولو جزء يسير من بريقها وطهرها. سيحاول مؤرخون وباحثون كثر في المستقبل أن يجدوا الأسباب، آخذين بالحسبان ما اقترفه النظام من مجازر وما تعرض له المتظاهرون من مضايقات ليس أولها الاعتقال والقتل والمال السياسي وليس آخرها سطوة من حمل السلاح وباتت كلمته هي القول الفصل رغم أنه غالباً "أبان اعتصام دوما أو درعا أو اعتصام الساعة في حمص أو حماة ..." لم يكن من المعتصمين ... ورغم أنه حمل السلاح بداية لحماية المتظاهرين لا لإسقاط النظام ولا لإسقاط أهداف الثورة بالحرية والديموقراطية والكرامة.