الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معركة القصير تفتتح فصلا جديدا في تاريخ حزب الله

معركة القصير تفتتح فصلا جديدا في تاريخ حزب الله

06.06.2013
د. بشير موسى نافع

القدس العربي
الخميس 6-6-2013
أسس حزب الله في ثمانينات القرن الماضي؛ وهو بذلك، وسواء كقوة سياسية أو عسكرية، لم يزل حزباً شاباً، تصعب مقارنة تجربته بمسيرات الأحزاب والقوى السياسية المتجذرة في المشرق العربي الإسلامي، مثل الإخوان المسلمين، حزب الوفد، حزب الشعب الجمهوري، أو البعث. ولكن الحزب استطاع خلال عقود قليلة من مسيرته تحقيق إنجازات كبرى، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، بدون أن يتعرض لامتحانات بوزن هذه الإنجازات.
في هذا الشرق القديم، بالغ التعقيد سياسياً واستراتيجياً وثقافياً، لا تأتي الإنجازات دائماً بتكاليف قليلة. وفي هذا الشرق، الذي ظل دائماً الموقع الرمزي لصعود الإمبراطوريات وسقوطها، تدفع القوى السياسية ويدفع القادة عادة أثماناً باهظة لأخطائهم. وبينما لم يعد من المهم، بعد أيام طويلة وطاحنة من الحرب حول مدينة القصير الصغيرة، من سيسيطر على المدينة، فإن القصير تفتتح فصلاً جديداً في مسيرة حزب الله.
أخطأ الحزب تقدير الثورة السورية من البداية، ربما، ولكن سوء التقدير كان يزداد فداحة بمرور الوقت وتفاقم الأزمة وتعقيدها. لم ير الحزب الدلالات التاريخية لحركة الثورة العربية، ولا حجمها واتساع نطاقها، ولا رأي ثقل المظلمة التي دفعت السوريين إلى الالتحاق بحركة الثورة منذ شهورها الأولى. وكما قلة أخرى من العرب، تصور الحزب أن النظام السوري سيكون الاستثناء. لشهور طوال، خرج السوريون في مظاهرات شعبية سلمية، غطت كل أنحاء البلاد؛ خرجوا كما خرج التونسيون والمصريون واليمنيون والمغاربة والليبيون، من قبلهم، ينشدون حريتهم المسلوبة منذ عقود، وكرامتهم المهدورة على أيدي أجهزة النظام الأمنية وفي أقبيتها. ومن البداية أيضاً، واجه النظام الحركة الشعبية، سياسياً، باستخفاف وغرور فادحين، طارحاً عدداً من الإصلاحات القانونية المفرغة من معناها؛ وواجهها، وأمنياً، بالسلاح.
أخذت أعداد القتلى في الازدياد، وتحولت مراكز مدن وبلدات، مثل درعا وحمص وحماة ودير الزور إلى ساحات حرب. في موقفه الأول، قال الحزب أن للمتظاهرين مطالب مشروعة، ولكنه تجاهل عنف النظام، المستمر، بلا انقطاع، وبدون مؤشر واحد على الرغبة في المراجعة. ومع انكشاف محاولات الحوار التي تعهدها النظام، ورفضه الاستماع لنصائح حلفائه وأصدقائه في تركيا والعديد من الدول العربية، لم يعد الحزب متحفظاً في تأييده للنظام ومقاربته للحراك الشعبي. بينما كانت قوات النظام تقتحم أحياء حماة وحمص ودرعا بالعربات المدرعة والسلاح الثقيل، وتوقع الدمار ببلدات وأحياء بأكملها، كان حزب الله يقول أن لا شيء يحدث في سورية وأنها مسألة أسابيع قليلة ويخرج الحليف السوري من الأزمة. تدريجياً، تبنى الحزب، بلا هوادة، رواية النظام للثورة بحرفيتها، من ادعاءات وجود إرهابيين مسلحين من القاعدة والجماعات السلفية، عندما لم يكن هناك ثمة سلاح يرى في نشاطات الحركة الشعبية، إلى تعرض سورية لمؤامرة خارجية، صهيونية وأميركية وقطرية وسعودية وتركية … إلخ، عندما لم يكن هناك من موقف أميركي أصلاً، وكانت تركيا والدول العربية لم تزل تتوسل بشار الأسد قيادة حركة الإصلاح.
ثمة من يرى أن قوات الحزب، كما ضباط من الحرس الثوري الإيراني، شاركت قوات النظام وأجهزته الأمنية منذ الشهور الأولى للثورة في جهود قمع الحركة الشعبية، على الأقل بتوفير الخبرات. ولكن الواضح للعيان، وما لا يقع في دائرة الظنون، أن الحزب أخذ في التورط منذ أكثر من عام، بادعاء حماية مقام السيدة زينب في جنوب دمشق، أو بحجة دفاع عناصر الحزب في القرى الشيعية، على الجانب السوري من الحدود، عن قراهم. لم يكن المقام، المتواجد في موقعه منذ 1400 عام مهدداً يوماً، لا قبل اندلاع الثورة ولا بعدها؛ وبالرغم من تعددية وجهات النظر بين المسلمين السنة حول مسألة المقامات، فليس ثمة شك أن احترام الأغلبية السنية لذكرى زينب بنت علي لا يقل عن احترام حزب الله. وإن كان هناك من مخاوف، لا أساس لها، من احتمال اعتداء تقوم به عناصر سلفية متطرفة على المقام، فالمعروف أن قوات الثوار في منطقة دمشق وما حولها لا تنحدر من هكذا خلفيات. كما أن حركة الأهالي السوريين والثوار المسلحين عبر الحدود كانت حركة طبيعية، تتعلق بظروف الحرب مع النظام ومتطلبات هذه الحرب، ولم تمس سكاناً شيعة أو سنة بأي صورة من الصور، على الأقل حتى بدأت عناصر الحزب في التدخل لصالح النظام وقواته. وفوق ذلك كله، فإن سورية، حتى من وجهة نظر حزب الله، لم تزل دولة ذات سيادة، وثقة الحزب الوثيقة بقدرات النظام السوري كان لابد أن تدع مسؤولية حماية مقام السيدة زينب للدولة السورية. كما كان على الحزب أن يلتزم الحياد في المناطق الحدودية، وأن يتجنب زج عناصره ضد أبناء المنطقة، الذين كانوا أول من استقبل سكان الجنوب والضاحية في 2006، ووفروا لهم ما استطاعوه من ملجأ ورعاية وحسن ضيافة عربية ـ إسلامية. ولكن هذه، على أية حال، كانت البداية، وما لبث التورط الخجول أن تحول إلى تورط صريح، وواسع النطاق.
لم يعد حزب الله يتوسل مسوغاً ما لتدخله. عندما تتحمل عناصر حزب الله العبء الأكبر للقتال في القصير، التي لا هي السيدة زينب ولا هي قرية شيعية حدودية، وتشارك في القتال في بلدات الغوطة الشرقية وريف حلب، وتشيع جنازات قتلى الحزب بالعشرات في البلدات والمدن اللبنانية، يكون الحزب قد كشف أوراقه وموقفه: التدخل السافر، ومهما كانت التكاليف السياسية والبشرية، لحماية نظام الأسد من السقوط. بين وقت وآخر، وبدون اكتراث ملموس، يتحدث الحزب عن حماية خطوط إمداده ومسائل شبيهة؛ أو يستلهم مقولات الإسرائيليين والأميركيين حول ‘الحرب الاستباقية’ و’قائمة الأهداف’، ولكن الحزب، والإيرانيين من خلفه، يعرف أن قيادات المعارضة السورية، ومن بداية الثورة، وقبل ظهور عنصر واحد من جبهة النصرة في سورية، كانت واضحة في توكيدها على أن مصالح إيران والحزب في سورية ستكون مؤمنة بعد سقوط النظام، وأن موقف سورية الجديدة من الصراع العربي – الإسرائيلي لن يتغير قيد أنملة. انطلقت الثورة للتخلص من القهر والاستبداد وحكم الأقلية المسيطرة على مقاليد السلطة والثروة، وليس للاحتجاج على سياسة سورية العربية والخارجية، التي لم تتغير منذ الاستقلال. ولكن هذا كله، على أية حال، لم يعد يحتل موقعاً هاماً في خطاب الحزب، وإن احتل مثل هذا الموقع، لم يعد مقنعاً لا للشعب السوري ولا الشارع العربي. وبتوفر أدلة متزايدة على أن حزب الله لا يدفع بعناصره فقط إلى معركة سورية، بل وينظم حملة تجنيد واسعة النطاق للشبان العراقيين والباكستانيين والأفغان والخليجيين الشيعة، للمشاركة في المعركة، يبدو الحزب وكأنه بات أشد حرصاً على الاستدعاء الطائفي للدور الذي يتعهده في سورية. إن صدقت مواقع التواصل المؤيدة للحزب في تقاريرها، التي أشارت إلى أن هجوم حزب الله على القصير قد أطلق بنداءات طائفية بحتة، وبرعاية كبار قادة الحزب، فإن ذلك يعني أن القيادات الإيرانية وقيادات الحزب لا ترى في سورية لا ثورة شعبية، ولا نظاماً مستبداً، بل معركة طائفية بحتة.
ليس التوتر الطائفي في المشرق العربي ـ الإسلامي مسألة جديدة كلية. فمنذ الحرب العراقية ـ الإيرانية في الثمانينات، والغزو الأميركي للعراق في 2003 وتحالف القوى السياسية الشيعية مع إدارة الاحتلال، والاحتكاكات المتكررة في منطقة الخليج والسعودية، شهد المشرق سلسلة من التوترات الطائفية. ولكن بروز حزب الله، ونضاله المستميت ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتحالفه الوثيق مع قوى المقاومة الفلسطينية، أهل الحزب للعب دور تاريخي في احتواء الأزمات الطائفية في المشرق. لم تتوحد شعوب هذه المنطقة من العالم على قضية كما توحدت على القضية الفلسطينية، وكان الحزب منذ نشأته في قلب الصراع العربي الإسرائيلي. في حرب صيف 2006، كانت النار الطائفية قد أخذت في التهام الأخضر واليابس في العراق وتنشر الموت والدمار في أنحائه؛ ولكن ما إن اندلعت نيران الحرب في لبنان حتى خرجت الشعوب العربية لمساندة الحزب وتأييد نضاله، وفي تعارض مع أنظمتها الحاكمة في أغلب البلدان. لم ترفع صورة زعيم عربي في ميدان التحرير، منذ وفاة عبد الناصر، إلا صورة حسن نصر الله. وهذا ما يجعل خطوة الحزب في سورية بالغة الفداحة. الذين اتخذوا قرار الزج بمقاتلي الحزب في معركة سورية بهذه الصورة لم يعودوا يكترثون لتفاقم الأزمة الطائفية، ولا لموقع الحزب في الضمير العربي ـ الإسلامي، ولا للدور الذي لعبه الحزب طوال العقود القليلة الماضية في توكيد معنى الأمة. وقد أدركت الأغلبية العربية هذه الدلالة الخطيرة والمؤلمة لتورط الحزب في سورية، فقابلته بمثل خطوته، واعتبرته عدواً لطموحاتها في الحرية.
ثمة دلالة أخرى لا تقل أهمية لتورط الحزب على هذا النطاق في سورية: أن استدعاء حزب الله ومن التحق به من المتطوعين الشيعة غير اللبنانيين في جبهات القتال المختلفة مؤشر واضح على أن جيش النظام لم يعد قادراً على إدارة المعركة؛ إذ مهما كان الرأي في مؤهلات الأسد القيادية، ليس ثمة رئيس يرغب في الاستعانة بقوات لا تنتمي لبلاده ومؤسسته العسكرية، طالما أن الأخيرة قادرة على القيام بالمهمات الموكلة إليها. دخول حزب الله إلى سورية، يعكس يأس النظام من إمكانية كسب المعركة، أو حتى تجنب الهزيمة؛ كما يعكس حقيقة تخلي نظام دمشق عما تبقى من مظاهر السيادة.
في النهاية، وإلى جانب أن سورية أظهرت هشاشة بنية الحزب الاستراتيجية وعجزه عن التعامل مع تعقيدات محيطه المشرقي؛ فإن الحزب لن يستطيع الانتصار في هذه المعركة. ما سينجح فيه الحزب هو تحويل سورية إلى معركة القطيعة مع محيطه العربي الإسلامي. ليس ثمة قوة مقاتلة، غريبة نسبياً، واختارت موقع الأقلية الطائفية، مهما بلغت من كفاءة، تستطيع الانتصار على شعب في حالة ثورة، يقاتل في مدنه وقراه نظاماً مجرماً ومستبداً، شعب تحركه دوافع حماية النفس والأهل والحرمات. للحزب، هذه معركة خاسرة لا محالة، خاسرة في سورية، وخاسرة في المشرق العربي ـ الإسلامي كله.