الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معركة تل أبيض في سياق صراع الأجندات الخفي بين واشنطن وأنقرة

معركة تل أبيض في سياق صراع الأجندات الخفي بين واشنطن وأنقرة

27.06.2015
بكر صدقي



القدس العربي
الخميس 25/6/2015
غداة انتهاء الانتخابات النيابية في تركيا، انتقد الرئيس الأميركي باراك أوباما بوضوح السياسة التركية المتساهلة لوجستياً مع "داعش" بقوله "إن السلطات التركية لم تطور، بما يكفي، إجراءاتها بصدد منع مرور المقاتلين عبر حدودها للانضمام إلى قوات تنظيم الدولة في سوريا". كذلك تحدث تقرير وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بمكافحة الإرهاب العالمي عن امتناع أنقرة عن القيام بواجباتها في الحرب على داعش.
الخلاف الأمريكي ـ التركي حول الأولويات في المسألة السورية بات معروفاً منذ قررت الإدارة الأمريكية انشاء تحالف دولي لمحاربة داعش، بعدما استولى التنظيم على الموصل وأعلن منها قيام دولة الخلافة، بقيادة أبي بكر البغدادي، في الثلاثين من شهر حزيران 2014. وإذا كان المعلن تركياً، بشأن سبب الخلاف، هو أولوية إسقاط نظام الأسد الكيماوي على محاربة داعش، فالمضمر هو الموضوع الكردي الذي طالما شكل هاجساً للدولة التركية بصرف النظر عن لون الحكومات المتعاقبة.
والحال أن هذه الحساسية متبادلة بين الأتراك والكرد، الأمر الذي شكل أحد أهم عوامل الشقاق بين الثورة السورية والمكون الكردي، البيئة الموالية منها للخط الأوجالاني بصورة خاصة. وهكذا كان حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري للعمال الكردستاني) يتهم خصومه من الأحزاب السياسية الكردية، منذ السنة الأولى للثورة السورية، بـ"العمالة لأردوغان" بسبب مواقفهم الأقرب إلى المعارضة السورية منها إلى النظام.
وذلك بسبب احتضان تركيا الأردوغانية لجماعة الإخوان المسلمين السورية الذين شكلوا الثقل الأهم داخل أطر المعارضة. بالمقابل اتُّهِم الحزب الأوجالاني السوري بـ"العمالة للنظام" من قبل خصومه، والتيار الإسلامي بصورة خاصة، لمجرد أنه يمتلك أجندته الخاصة وليس على توافق مع "معارضة اسطنبول".
كانت النتيجة أن أحزاب "المجلس الوطني الكردي" الممثلة للتيار البارزاني – الطالباني داخل الحركة السياسية الكردية، انضمت إلى الائتلاف الوطني، وإن بعد كثير من التأخير، مقابل انضمام "الاتحاد الديمقراطي" إلى "هيئة التنسيق" الأقرب إلى الخط الروسي ـ الإيراني.
كان لاحتضان الحكومة التركية للمعارضة السورية تداعيات تجاوزت المستوى السياسي إلى العسكري، فساهمت أنقرة بنصيبها من أسلمة الثورة وصولاً إلى تقديم التسهيلات اللوجستية إلى مجموعات جهادية أبرزها أحرار الشام والنصرة. بل تذهب الاتهامات من جهات عدة، تركية معارضة وغربية، إلى اتهام الحكومة التركية بتقديم تسهيلات إلى تنظيم الدولة نفسه الذي نجح في خلق إجماع دولي على مكافحته. من هذا المنظور، لا يمكن اعتبار موقف أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، من تحرير تل أبيض، جديداً بسبب خصوصية هذه البلدة ذات الغالبية السكانية العربية. فالموقف نفسه رأيناه من أردوغان في حصار كوباني ذات الغالبية الكردية. أعني الاتهامات الموجهة من أنقرة، وصداها في المعارضة الإسلامية السورية، إلى قوات حماية الشعب التابعة لجماعة أوجالان في سوريا بممارسة "تطهير عرقي" بحق العرب والتركمان". بل إن أردوغان اتهم الولايات المتحدة صراحةً بالمساهمة في هذا التطهير، من خلال الضربات الجوية، و"إحلال pyd وpkk محل السكان العرب والتركمان. وهو "أمر لا يمكن القبول به" على حد تعبير رئيس الجمهورية التركية. فالموقف السلبي نفسه رأيناه إبان معركة كوباني حيث لم يكن من الممكن الحديث عن تطهير عرقي، فكان الموقف التركي، هناك أيضاً، منحازاً لداعش ضد القوات الكردية.
بالمقابل، لا يخفي الأمريكيون دعمهم الصريح للقوات الكردية الأوجالانية التي تشكل، من وجهة نظرهم، الحليف الأرضي الأنسب والأكثر فعالية في مكافحة داعش. من زاوية النظر هذه يبدو الموقف الأميركي أكثر اتساقاً من حيث أولوية مواجهة داعش في إطار المسألة السورية. أما اتساق موقف الحكومة التركية (من رأس العين إلى كوباني إلى تل أبيض) فهو يتمحور تماماً حول الموقف السلبي من الكرد، الأمر الذي لا يقتصر على المسألة السورية، بل يتجاوزها إلى الاستقطابات الداخلية في تركيا نفسها. فقد رأينا أن الخصم الرئيسي لأردوغان وحزبه في الحملة الانتخابية التركية كان حزب الشعوب الديموقراطي الذي يعتبر الممثل الرئيسي لكرد تركيا والواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. وقد بذل أردوغان والعدالة والتنمية أقصى الجهود للحيلولة دون تجاوز الحزب الكردي حاجز العشرة في المئة الضروري لدخول البرلمان. وهو ما فشل فيه، كما فشل في تحطيم قوة حزب الاتحاد الديمقراطي بواسطة المجموعات الجهادية العاملة في شمال سوريا. بل أكثر من ذلك، نجح أردوغان، من خلال هذه السياسة الخاطئة، في دفع إدارة أوباما إلى تزويد "الاتحاد الديمقراطي" بالسلاح، إبان معركة كوباني، مع أنها تعتبره "مقرباً" من حزب العمال الكردستاني الموجود على اللوائح الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
هل تملك تركيا خياراً آخر؟ نعم. في صيف العام 2013، استدعت أنقرة صالح مسلم على عجل، وتجاوب الرجل بسلاسة، فاجتمع بكبار القادة الأمنيين الأتراك. كان شرط صالح مسلم للتعاون الإيجابي مع تركيا في سوريا هو منع السلاح عن المجموعات الجهادية. لكن أنقرة لم تتجاوب. فكانت الرحلة التالية لمسلم، بعد أنقرة، إلى طهران حيث وجد الحضن الإيراني مفتوحاً لاستقباله! عرض صالح مسلم لعلاقات إيجابية مع تركيا ما زال قائماً، كما أكد في مناسبات عدة، وما زال يواجه برفض عنيد.
لا تحاول هذه المقالة تبرئة أوجالانيي سوريا من انتهاكات يرتكبونها بحق السكان العرب في تل أبيض وريفها، بذريعة علاقات مفترضة جمعتهم بتنظيم داعش أثناء احتلاله لتل أبيض. فحتى لو صح وجود علاقات مماثلة للبعض، ليس "الاتحاد الديمقراطي" أو قواته المسلحة هما الطرف المؤهل لمحاسبة من ارتكب جرائم بحق السكان تحت مظلة داعش. بل ينبغي أن يحاكم هؤلاء أمام جهات قضائية مستقلة. في حين أن الاتحاد الديمقراطي هو طرف في الصراع. ويزداد الأمر سوءاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار امكانية إطلاق تهمة "الداعشية" (على الطريقة المكارثية) بسهولة لأسباب كيدية أو عرقية بحتة.
هل يسعى "الاتحاد الديمقراطي" إلى تشكيل منطقة تحت سيطرته على طول الحدود مع تركيا؟ لم لا إذا تمكن من ذلك؟ وهو ما يناسب سياسة الحليف الأمريكي أيضاً لأنه من جهة يضعف داعش، ومن جهة أخرى يلوي ذراع أردوغان في سوريا. لكن الاتحاد الديمقراطي يدرك صعوبة هذا الأمر، وبخاصة غربي نهر الفرات باتجاه عفرين، لأن الأمر قد يكلفه إشعال صراع عرقي عربي ـ كردي لا قبل للحزب الأوجالاني بتحمل كلفته الباهظة. لذلك قد يفضل الحزب الزحف، مع حلفائه من كتائب الجيش الحر، باتجاه الرقة على التمدد باتجاه أعزاز.
٭ كاتب سوري