الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معلولا وسائر المشرق

معلولا وسائر المشرق

19.09.2013
سمير عطاالله



النهار
الاربعاء 18/9/2013
تستبيح الحروب فتُبيح. عندما تزول حرمة الحياة، فأي حرمة تريد أن تبقى. لذلك يتحوّل المُبكي مُضحكا، لأن كل شيء يتحول إلى عبث وعجز. ولا يعود شيء في قيمته وأساسه. فعندما تقصف الطائرات الناس من السماء، كيف سينظر الناس إلى قولك إن سرقة البيوت عيب؟ وعندما يصبح الزواج، كما في اليمن، أن تموت العروس الطفلة ممزقة الرحم ليلة "العرس"، فكيف سيصغي الناس إليك تتحدث عن سُوءات الطلاق؟ النسبية ليست نظرية فيزيائية، فهي قبل ذلك قاعدة خُلقية، اتخذها الناس لكي يحموا أنفسهم من الافتراس.
عندما خرج باراك أوباما على العالم يرسم لنفسه خطاً أحمر، لم يلحظ أنه يمشي فوق بساطٍ من الجثث. كأنما المعرّي ابن معرّة النعمان كان يسترئي أرض قومه اليوم عندما قال: "إنما أديم الأرض من هذه الأجساد". ولكن كان ثمة اتفاقٌ واضحٌ بين أوباما وفلاديمير بوتين وبشار الأسد، حول الموت الذي لا يعني أحداً والموت الذي يحرّك – دفعة واحدة – نخوة أوباما وفِزعة بوتين وموافقة معالي السيد الدكتور وزير الخارجية وليد المعلم، وهي موافقة مشروطة – كالعادة – برابط أخلاقي إنساني: "حرصاً على أمن مواطنينا". لا يحدّد السيد وزير الخارجية أي مواطنين وأين، أو إن كان ذلك يشمل أهل المخيمات في الأردن وتركيا وأهل العراء والخرائب في حلب. لكن أهل الغوطة، حتماً يشملهم... هذه لغة الحروب. يزول منطق النسبية وتمّحي مألوفات الحياء. يخرج أوباما ومعه مسطرة لرسم خط أحمر، ويسارع بوتين إلى الاعتراف به ويعجِّل الدكتور المعلم في اعتباره درعاً لحماية مواطنيه. من درعا.
عندما ترتفع حرارة الحمّى، يهَلوِس الإنسان. مأساة معلولا كانت مجرد نموذج آخر، ليس على وحشية القاتل بل على ردود الفعل من جميع الجهات: أولاً، النظام، الذي يتأمل مجزرة وقعت على بُعد 50 كيلومتراً من دمشق، وبدل أن يستحي من انحساره، يُفاخر بأنه على حق: ألم نقل لكم هذا ما سيفعله التكفيريّون بالأقليات؟ هل كان ضرورياً أن تُخبرنا؟
هل كانوا يخفون نياتهم وسلوكهم؟ ألا تشاهد "كليبّات" حزّ الأعناق والتلذّذ بالأكباد.
ثم ماذا لو لم تكن معلولا بلدة مسيحية؟ هل كان ذلك يجعل البربرية أكثر رفقاً ورأفة؟ متى كان على المتوحش أن يميّز بين إنسان وآخر؟ إذا قُصفت المدن بالطائرات والصواريخ والدبابات، تُصبح الهويات المقتولة في الهجمات البرية أمراً تفصيلياً. سبق القتل الفردي في معلولا قتلٌ جماعي في الغوطة. سبقت الغوطة رمّادات حمص التي زارها السيد الرئيس، العام الماضي، احتفالاً بالنصر. وبعد عام لم يبقَ جدار قائم يزوره. ولا منزل يُلقي التحية على أهله.
أثقل صفحات العَبَث في معلولا كان النقاش الذي علا فوراً بين مسيحيي لبنان. والله العظيم يا جماعة استحوا. يا عمي، والله عيب. تناقش الفريقان حول ما حدث في معلولا وكأن الحفاظ عليها مسؤولية كل واحد منهما، وما حدث لها من مأساة، هو نتيجة تخلّيه سهواً عنها، لانهماكه بسائر المشرق.
هل تعرف أين تقع معلولا؟ هل لك علاقة بمؤسسة مسيحية واحدة في الشام؟ وهل يُسمحُ لك ذلك في الدولة "العلمانية" الوحيدة؟ ما هذا الجدل المنفّر بينكم في مسألة لا علاقة لكم بها ولا قرار ولا كلمة؟
هذا ما تفعله الحروب. إذا كانت هناك من بقايا حياء فإنها تزول. منذ أشهر وأنا أنتظر ردود الفعل "المسيحية" على خطف المطرانين في سوريا، وأحدهما شقيق بطريرك الروم. باستثناء بضع لافتات في طلعة مار متر، لا شيء. لم تصل التعليمات بعد. ولكن يا رجل، هناك حبران من أحبار الكنيسة الأرثوذكسية في الأسر، هناك يسوعي ايطالي في ظلام الخطف أيضاً. أين زعامات مسيحيي الشرق؟ إنهم مهتمون بما هو أكثر أهمية بكثير: الوحدة المشرقية.
لعل هذا السهو العدمي موجود أيضاً في الأيام العادية، من غير أن ندري. ليس من الضروري أن تقع مأساة كتلك التي وقعت في معلولا، لكي يتأكد لنا ما كنا نعرفه: إن المسألة كلها، عند سياسيي المسيحية اللبنانية، لن تعدو الفارق في حسابات عدد النواب وموسم الترشيحات وقوانينها.
احتراماً للموت، وخصوصاً من النوع الذي وقع في آخر ديار آراميا، كان الصمت أسلم. فإنه من الوقاحة، حتى بالنسبية الدارجة، أن تصمت في الغوطة و"تفوع" في معلولا. مثلما هو تقسيم الحياة عيب، فإن تقسيم الموت عار. كان أحرى بالسادة الناطقين باسم المسيحية في هذه الأيام، بجميع فروعهم وأجنحتهم وتواريخهم ومرافئهم ومكبَّاتهم النووية وبونات البنزين وقصف أهلهم حتى وهم يهربون من مرفأ جونيه، كان أحرى بهم أن يفعلوا ما فعلوه دائماً: انتظار نتائج التحقيق!
صار المجتمع الدولي يشبهنا. شاهد، بالبث المباشر، أكثر من 400 طفل في أكياس نايلون، فقرر إرسال فريق من الخبراء للتحقّق من نوع الغاز. ماذا تستطيع الأمم المتحدة أن تفعل؟ لا شيء. أقصى ما تستطيع فعله هو أن تُشهر في وجوهنا ما وقَّعنا من مواثيق. لكن دمشق، استباقاً رؤيوياً كالعادة لمخططات التكفيريين، لم توقِّع معاهدة الكيماوي. وإذ تحرّك الدِّب الروسي للتضييق على الفيل الأميركي، فسدَّ بذلك كل باب أممي، لم يبقَ لبان كي - مون سوى ما بقي لنا جميعاً: البكاء.