الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مقاربات لإصلاح حال الأمة

مقاربات لإصلاح حال الأمة

05.05.2019
محمد جمال طحان


سوريا تي في
السبت 4/5/2019
بدأت النهضة لدينا في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت نهضة ثقافية متوازنة، في حين نعاني اليوم من طغيان الجانب السياسي، وبروز صورة العنف بأشكاله المختلفة. لذلك نحن في حاجة ماسّة إلى قراءة أسس النهضة وأسباب انحسارها لنبحث في كيفية إحيائها من جديد.
وننطلق في دراستنا من ثلاثة منطلقات رئيسة تتعلّق بالمفهومات والعلاقات والسياق التاريخي. وحين نقف عند المفهومات نحدّد معنى الحركة بالجهود الفردية التي انطلقت للتعبير عن وعي خاص أكثر مما استطاعت بناء مشروع محدّد ومتّفق عليه.
أمّا مفهوم الإصلاح فقد كان مرادفاً لكلمَتي التجديد والثورة ولم تكن تُعرف له أسس واضحة. والنهضة كانت توازي التقدّم في مواجهة التخلّف، بغضّ النظر عن ارتباطها بالغرب أو بالشرق. ولابد أن ننظر إلى حركة الإصلاح من خلال فحصها من داخلها، كما رآها أصحابها، ووصف هذه الزاوية للنظر بالعلمية أو الحيادية، ونحاول، ثانياً، أن نفحص الظاهرة من خلال بعدها الاجتماعي أو أثرها ودورها في المجتمع من ناحية موضوعية أو واقعية.
أما منطلق الدراسة الثالث فهو السياق التاريخي لظاهرة الإصلاح، وذلك يتم بدراستها ضمن ظروفها وملابساتها وشبكة علاقاتها المتجانسة لنتبيّن قيمتها السلبية والإيجابية، ونمنحها منزلتها اللائقة.
ونحن، مبدئياً، نميز بين ثلاثة ألوان من الخطاب الديني في عصر النهضة، أوّلها الخطاب الفقهي، وثانيها الخطاب الصوفي، وثالثها الخطاب الإصلاحي.
الخطاب الفقهي تبنّته المؤسسات الدينية وفي مقدّمتها الجامع الأزهر، ويتميّز هذا الخطاب بالسكونيّة، يقاس فيه الغائب على الشاهد، ويُعاد إنتاج الأقوال فيه من غير تجديد. ويتبع ذلك نفي النقد، فكل حكم أو قول مقدّس، لا يحق دحضه أو ردّه أو الاعتراض عليه. وبهذا المعنى يمثّل الخطاب الفقهي كتاباً جامعاً مانعاً هو فوق التاريخ وفوق حركة المجتمع، بالنظر إلى مرجعيته أوّلاً، وإلى عالميته ثانياً. وعلى المستوى الأوّل يمثّل الخطاب إجابات صالحة لكل زمان ومكان، وعلى المستوى الثاني لا يحتاج إلى غيره في مبادلات التأثّر والتأثير كي ينضج ويستمر.
وما يميّز ذلك الخطاب أيضاً أن أصحابه يعتقدون بأنهم واسطة العقد بين الله والبشر، أو النص والمتلقّي، بهم تُناط الأحكام وتُحفظ العقيدة، وعن طريقهم يتم فهم الدين والوعي به. وتأسيساً عليه، كما يقول الدكتور اليافي في كتابه عن الإصلاح الديني: ” في تلامح هذه الخصائص الأربع للخطاب الفقهي نقول إنه خطاب العقيدة الكاملة المكتملة، حلّت فيه الحاشية محلّ المتن".
أما الخطاب الصوفي فقد بقي محصوراً في نطاق الزهد والأخلاق، وتتفرع عنه ثلاث شعب:
الأولى أبقته في حدود الورع والتقشّف وانتهت به إلى الحب الإلهي.
والثانية مزجته بالفلسفة العقلية وأدخلته في متاهات المعرفة الإشراقية، وانتهت به إلى الوقوف عند مسائل تمتد من الحلول إلى الوحدة المطلقة.
وثالثها صيّرته طرائق للذكر وحلقات للرقص والسماح، وخلوات للتفجّع والتأوّه، ومجموعة من البدع والتمائم.
وفي جميع هذه الشعب نلمح وجهين للتصوّف: وجه إيجابي يتجلّى في مجاهدة النفس والحرص على القيم الخيّرة وفي مقدّمتها إنسانية الإسلام أو عالميته، ووجه سلبي يتجلّى في الجبرية والتواكل ونبذ الحياة.
أما الخطاب الثالث، خطاب الإصلاح الديني، فهو يتوجّه إلى فكر الإنسان المسلم، ويطالبه بأن يجمع بين الدنيا والآخرة، وبأن يلغي الوسائط والبدائل والأوثان، وأن يتجاوز الخلافات والمذاهب والطوائف، وأن ينهل من النبع، أي من النص الأصيل مباشرة، ويدعو الإنسان إلى الاجتهاد والتأويل حتى يساير ركب الحضارة والعصر.
أما أعلام الإصلاح الديني فقد عبّروا عن الحركة ولكنّهم لم يتبنّوا مشروعاً موحّداً بقدر ما دعوا إلى خطوط عامة صاغوها من فهمهم للإسلام، بدت من خلالها اختلافات بينهم، منها توزّعهم بين تغيير ثوري فوري، ومنها تغيير متدرّج يعتمد على تهيئة الناس وإعدادهم له.
أما الخطاب الثالث، خطاب الإصلاح الديني، فهو يتوجّه إلى فكر الإنسان المسلم، ويطالبه بأن يجمع بين الدنيا والآخرة، وبأن يلغي الوسائط والبدائل والأوثان، وأن يتجاوز الخلافات والمذاهب والطوائف، وأن ينهل من النبع، أي من النص الأصيل مباشرة
وربط بعضهم إصلاحه بالسياسة، وآثر آخرون ربطه بالتربية. منهم من ناصر الجامعة الإسلامية المتّصلة بالعثمانيين، ومنهم من انطلق من الوطنية بعيداً عنهم، بل لقد ذهب الكواكبي إلى أبعد من ذلك داعياً إلى الوحدة القومية.
أما المؤثّرات التي كانت وراء حركة الإصلاح، فيمكن أن نوزّعها بين مؤثّرات خارجيّة وأخرى داخليّة ذاتيّة.
أمّا عن أسس الإصلاح الديني فهي تتوزع في عشرين مكوّناً، تبتدئ بالرؤية التي تعدّ الإصلاح الديني جزءاً من الإصلاح العام الذي يشمل السياسة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق، فالإصلاح لا يعني إصلاح العقيدة وإنّما يعني إصلاح الحياة. وقد قادتهم هذه الرؤية إلى تصوّر لمعنى المدنيّة، حيث يتّضح أن الإسلام ليس دين عبادة وحسب، وإنما هو دين حضارة يهتم بتقدّم الفرد وتقدّم الجماعة.
ونلاحظ التوسع في فهم مفردة الإسلام لتنطبق على الدين المشترك منذ إبراهيم حتى الرسالة المحمدية، وتعني الإيمان بالله والتسليم له والعمل الصالح، وهنا يكون الغرب جزءاً من الإنسانية، وحضارة العصر هي حضارته، ولا بأس أن نتأثّر به ونأخذ منه ما يفيدنا، ولا يتعارض مع وجودنا وشخصيتنا، مع الحفاظ على الفارق بيننا وبينه. وهذا ما التزمت به حركة الإصلاح في عصر النهضة التي لاحظ أعلامها أيضاً أن واقع المسلمين شيء وإسلامهم شيء آخر، لذلك رفضوا الواقع، كما رفضوا كل ما هو دخيل على الإسلام مثل البدع والتواكل والخرافات.
فالإصلاح لا يعني إصلاح العقيدة وإنّما يعني إصلاح الحياة. وقد قادتهم هذه الرؤية إلى تصوّر لمعنى المدنيّة، حيث يتّضح أن الإسلام ليس دين عبادة وحسب، وإنما هو دين حضارة يهتم بتقدّم الفرد وتقدّم الجماعة
ويؤمن أصحاب حركة الإصلاح أن التراث الإسلامي، على جميع مذاهبه وفرقه، تراث مشترك للجميع، ومن حق المسلمين أن يأخذوا منه كلّه ما يشاؤون من غير أن تكون السنة والشيعة وسيلة لتفرقة الأمة، لأن ديننا يدعو إلى التوحيد.
وبرغم هذا الوعي النهضوي والدعوة للرجوع إلى التراث المشترك، ينبغي تجاوز الفروع للالتقاء عند الأصول، ونقطة الانطلاق في هذا اللقاء هو الواقع الذي نعيشه بقضاياه الساخنة وضروراته، وليس الالتفات إلى الماضي وقضاياه السالفة. وذلك كله لا يكون إلاّ بالرجوع إلى الأصول لأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صَلُحَ به أوّلها، قبل المذاهب والطوائف. والقرآن هو المقولة الأساس في كل عودة، والطريق الواصلة بين الواقع والنص هو الاجتهاد والتأويل، الاجتهاد في الأحكام، والتأويل في تفسير النص بما يتلاءم مع الواقع.