الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ملحمة حلب .. حتمية النصر

ملحمة حلب .. حتمية النصر

10.08.2016
طلال صالح بنان


عكاظ
الثلاثاء 9/8/2016
تَسْطُرُ مدينة حلب السورية ملحمة فاصلة في تاريخ العرب الحديث، تتوقف نتيجتها ليس على مصير المدينة العربية الحرة الثائرة، فحسب... بل على المستوى الإقليمي والدولي. حلب، بالرغم من تاريخية تنوعها الديموغرافي والعرقي والديني والطائفي، إلا أنها تشكل رأس الحربة في تواجد العرب السُنّة الذي يحتل قلب الشام، من حلب شمالاً إلى درعا جنوباً، مروراً بإدلب وحماة وحمص ودمشق. حلب الذي كان يتجاوز عدد سكانها أربعة ملايين نسمة قبل الحرب، يشكل العرب السُنّة ٨٥%‏ من سكانها، لا يتجاوز عدد سكانها اليوم نصف المليون نسمة، يستبسلون في ملحمة تاريخية تحكي قصة أقدم حاضرة مدنية في التاريخ، سبق واستعصت على الغزاة، الذين تعاقبوا على الشام، منذ آلاف السنين.
اليوم تواجه المدينة أعتى عدوان عليها، ربما شهدته طوال تاريخها العريق، من قبل نظام طاغٍ عميل، وقوى إقليمية أعمتها طائفيتها البغيضة، إلى قوى دولية لم يبق لها من بقعة في العالم لتسوية أطماعها وتجربة أسلحتها وتعرية "حضارتها" الدعِيّة المزيفة، إلا على أسوار هذه المدينة الأبية المنيعة، التي تستعصي على الاقتحام وكسر إرادة شعبها، رغم الحصار الجائر عليها.. والقصف الوحشي الجبان لكل جدار قائم بها، وقنص كل كائن حي يتنفس فيها. هذه المدينة البطلة المناضلة، تعطي درساً للجميع، بدايةً لعدوٍ يحاول كسر إرادة أهلها، باستخدام أحدث ما طوره الإنسان من أسلحة إبادة فتاكة، وفرض حصارٍ جائرٍ عليها. أيضاً: درس هذه المدينة الصامدة الباسلة يَطَال كل من خذلها من العرب، بل والإنسانية بأسرها، التي أصابهم الوجوم.. وأطبق على ألسنتهم الخَرَس.. وأصيبوا بالبلادة الحسية وموات الضمير وانتزاع الإنسانية من أفئدتهم قبل عقولهم، وأضحوا لا يحركون ساكناً، كأن على رؤوسهم الطير.
لم يَسْطر التاريخ أن مدينة تقاوم معتديها والمتآمرين عليها من داخلها وهي محاصرة من كل جانب، حتى أن هواءها أضحى ملوثاً وخانقاً من شدة القصف.. وهبوب الغبار، وإظلام الدخان. مدينة لم يعد يبقى لديها إلا عزيمة المدافعين عنها وعن تاريخها العريق، وهم يعانون من نقص العتاد وقُصُور العُدّة، معتمدين على مدد الله وصمود أهلهم في دورهم، وهم يفتقرون لأدنى احتياج البقاء على قيد الحياة من غذاء ودواء وماء وطاقة.. وما يقيهم قيض الصيف وزمهرير الشتاء. التاريخ تكلم عن الكثير من المدن التي صمدت أمام جحافل الغزاة، إلا أنه قد تكون أول مرة في التاريخ تصمد مدينة، مثل حلب اليوم، ولا يأتيها مدد من الخارج، ويكون الحصار مطبقا عليها، بصورة خانقة لا ينفذ من خلالها أيٌ من متطلبات الصمود. حكى التاريخ كثيراً عن صمود ستالينغراد أثناء الغزو النازي لها، في الحرب العالمية الثانية، إلا أن حصار النازيين لستالينغراد لم يكن محكماً، الإحكام الذي يفرضه نظام الأسد وميليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني على حلب، تحت حماية مظلة جوية روسية تقوم بدور مزدوج في قصف المدينة، وتشديد الحصار عليها.
منذ أيام ظن الغزاة أن المدينة خارت مقاومتها، وأن دخولها وحسم أمرها، لم يعد يحتاج سوى استسلام مذل للمقاومة فيها ومن قبل سكانها. فأعلنوا عن إقامة "ممرات آمنة" لمن يريد أن يخرج منها من سكانها ومقاتليها! لم تكن المفاجأة أن أحداً لم يستجب للمسرحية التي أخرجها الروس.. وتصدر دور البطولة الزائفة فيها نظام الأسد ومن يدعمه من ميليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني... بل كانت المفاجأة الكبرى بشن المقاومة لهجوم مضاد من داخل المدينة المحاصرة جاءت بشائره الأولى بإسقاط طائرة مروحية عسكرية روسية.. وفي ساعات استطاعت المقاومة البطلة في المدينة من استعادة مواقع حصينة أطراف المدينة أخذ من القوة الغازية بدباباتها ومدفعيتها وطائراتها الروسية المتقدمة ستة أشهر لاحتلالها! إنجاز إستراتيجي غير مسبوق في حرب المدن، قامت به المقاومة في حلب مدعومة بصمود من بقي من سكانها بها، لا أخاله إلا ويؤصل علمياً ليدرس في أكاديميات العالم العسكرية.
إن مدينة عمرها خمسة آلاف سنة، لا يمكن أن تسقط وإرادة البقاء فيها متقدة، بطول عراقة تاريخها البعيد. مدينة مثل حلب لن تستلم ولو لم يبق من دُورِها حجرٌ على حجر. مدينة مثل حلب لن ترفع الراية البيضاء وبقي فيها رجل يحمل السلاح ويتقد حماساً ومقاومة. مدينة مثل حلب لن تسقط لأن التاريخ يأبى أن يسقط معها. مدينة مثل حلب لن تسقط لأن الباطل يمكن أن يكسب معركة، لكنه أبداً لم يتمكن من انتصار في حرب. مدينة مثل حلب لن تسقط لأن عقيدة الإسلام الصحيحة تأبى أن تسقط واحدة من أهم قلاعها الحصينة بيد شذاذ الآفاق.. ومعتنقي النحل الضالة المضلة، وقوى الشر المعادية للحرية والسلام.
حلب ستنتصر، لأن انتصارها حتمي، حتمية الحق وقوة الله الماضية، وإرادته سبحانه تعالى النافذة. في تاريخ العرب والمسلمين قديماً سقطت مدن وقلاع وحصون، إلا أنها ما لبثت وأن أُستعيدت. لكن حلب لا يمكن لها أن تسقط، لأن سقوطها يعني سقوط أهم معاقل العرب السُنّة، في قلب العالم القديم وأرض الرسالات. حلب لن تسقط لأن التاريخ يأبى أن يرجع الهكسوس والمجوس، وأن يعود الصليبيون، من جديد، لقلب العروبة والإسلام، الذي من أرض الشام أضاء الله بنور الإسلام، في أقل من مئة عام، المعمورة بأسرها، من الأندلس إلى الصين.
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما تكشفت عنه حركة التاريخ، وهو يحرض الجند على قتال فلول المغول في معركة شقحب الفاصلة (رمضان ٧٠٢ هـ)، التي أنهت وجود التتار في أرض الشام نهائياً، قائلاً بثقة المؤمن: سننتصر.. قيل له قل يا شيخ: إن شاء الله.. عاد قائلاً سننتصر.. قيل له: قل يا شيخ: إن شاء الله... قال بعد أن كررها ثلاثاً: أقولها تحقيقاً وليس تعليقاً. نحن معه اليوم، يرحمه الله، نقول: ستنتصر حلب - بمشيئة الله - تحقيقاً، وليس تعليقاً، لأن حركة التاريخ تتراءى اليوم أمامنا ومعركة حلب على أشدها، مُفْصِحَةً: أن الحق سينتصر، بمشيئة الله تعالى، ثم بإرادة المقاتلين البواسل في حلب، وبصمود أهل حلب المؤمنين بنصر الله القريب.
حلب الشهباء المظفرة ستنتصر، لا محالة.