الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من أوروبا إلى الشرق الأوسط: ثمن تقاعس القوة العظمى

من أوروبا إلى الشرق الأوسط: ثمن تقاعس القوة العظمى

10.03.2014
حسن منيمنة


الحياة
الاحد 9/3/2014
أوكرانيا، الجارة التوأم التي يعود الفضل في وجودها، كما في وجود غيرها من الدول المستقلة في محيط روسيا، إلى مخادعة أراد عبرها الحاكم السوفياتي بالأمس الظهور بمظهر المقرّ بحقوق القوميات، فانقلبت المخادعة على المخادع في ظرف تاريخي لم يكن في حسبانه. وأن تكون لروسيا فيها مصالح موضوعية أمر بديهي يؤطره المكان والتاريخ والاقتصاد، أما أن تمسي هذه المصالح مبرراً يطرح جهاراً للاستيلاء على مقومات دولة مستقلة من دون اعتبار لقيود المنظومة القانونية الدولية، فهو فقط دليل انحسار هذه المنظومة، إن لم يكن انهيارها، بفعل تخلي القوة العظمى، الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما، عن موقعها وغيابها عن مسؤوليتها في تثبيت الإطار الدولي. ثمة استخلاصات أساسية يفرضها الواقع العالمي الجديد الذي يتشكل نتيجة عوامل متباينة منها البنيوي ومنها الطارئ.
أولاً، سقطت مقولة «الواجب بالحماية»، والتي تطورت من مفهوم أقل إلزاماً، أي «الحق بالحماية»، وهو يسمح للدول القادرة على التدخل باعتراض اضطهاد سافر تتعرض له المجتمعات في دول أخرى. سقطت هذه المقولة لتخلف القادر من الدول على وقف المقتلة المستمرة في سورية، حيث يمارس النظام «حقّه» في العقاب الجماعي عبر ما تيسر له من وسائل القتل والتدمير، البدائي منها والمتطور، على شعب متروك للذبح والتذابح. لكنها سقطت أيضاً للجوء موسكو إلى استدعائها، وإن ضمناً على الغالب لاعتراضها على تكريسها بالأمس، لتبرير تدخلها بحجة حماية أقلية تؤيدها. فبعدما جرى تطوير هذه المقولة في التسعينات لمنع سياســات الإبادة والتـــطهير العرقي في البلقان، ثم جرى الخلط في اللجوء إليها في بعض الأوساط لتفســـير التدخل الأميركي في العراق، تغيب هذه المقـــولة اليوم عن خطابات القوة العظمى التي مارستها بالأمس وتصبح بالفعل ما اتهمها به مـــعارضوها دوماً، مبرراً تنميقياً يطرحه صاحب القوة حين يريد لتعزيز مواقعه.
ثانياً، انكشف الوهن العميق لقراءات «اللعبة الكبرى» والتي ترى بتوالي الأحداث الدولية تحقيقاً للاطلاع الثاقب والقدرات الهائلة لأطراف دوليين متمكنين، حيث هذا الطرف العظيم افتراضاً -أي روسيا التي يخطئ من يتمنى لها القدرة على موازنة الولايات المتحدة، فيرى في انحدارها إلى السلطوية نهوضاً وقوة خارقة متجددة- لم يتمكن من استباق أحداث أوكرانيا ولا من استيعاب التطورات، على رغم حضوره الفعلي والمادي، بل البشري، في السياسة والمجتمع الأوكرانيين. طبعاً، من شأن من أراد التمسك بإطار «اللعبة الكبرى» أن يقرر اعتباطاً أن قوى خفية تديرها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو إسرائيل أو زيمبابوي وراء المواجهة الدولية المفترضة التي ابتدأت في ميدان كييف. فالإمعان بالأوهام لا يقتضي البرهان.
ثالثاً، يتضح الفارق في المزاج السياسي الداخلي، للمجمتعات والقيادات على حد سواء، بين السلطويات من جهة، والدول ذات النظم السياسية التمثيلية. فالمقارنة الموضوعية لحال دول التحالف الغربي قد تفيد عن بعض الضعف في الأداء الاقتصادي، لكنها تكشف كذلك تماسكاً داخلي للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجعل هذا الضعف ظرفاً مرحلياً مرشحاً للتجاوز في أمد قريب، فيما المتابعة الدقيقة لأحوال السلطويات، ابتداءً من روسيا وصولاً إلى الصين، تفيد عن تشنج داخلي وتنامي مواطن التجاذب، ما يهدد بانفجارات مستقبلية قد تكبر أو تصغر. في المقابل، الأجواء السياسية العامة في الغرب تتحدث عن أفول وتراجع، فيما السلطويات تتبجح بنهوض يفترض أنه تاريخي. وفي حين يؤدي هذا التفاوت إلى ترجيح كفة السلطويات موضعياً، كما في أوكرانيا، فإنه ينذر باضطرابات أكثر حدة مع الاستواء الراجح بين القدرات والمواقف الخطابية.
رابعاً، تتبيّن مجدداً خطورة الوضع الدولي في ظل استقالة القوة العظمى الوحيدة من موقعها فيه. فمن شأن الرئيس الأميركي أن ينذر نظيره الروسي بأن «ثمة عواقب» للتدخل العسكري في أوكرانيا، ولكن ما هي هذه العواقب؟ قد يعرب بوتين علناً عن بعض الأسف لغياب أوباما المرتقب عن قمة سوتشي المقبلة، غير أن هزال التهديد الصادر عن الرئيس الأميركي يلقى لتوّه الاستهجان حتى في صفوف من سار معه في شعبويته الانطوائية التي برّأته من المسؤوليات في أكثر من ملف دولي. الواقع أن المؤسسة السياسية الأميركية التي يجعل منها النظام السياسي الأميركي أداة في يد الرئيس، تشهد تبايناً متكرراً، وإن بقي محكوماً بالالتزام بالإطار الثابت، إزاء ما يعتبره بعضهم تفريطاً بالمصلحة الوطنية والاستقرار الدولي.
لا يستطيع أحد من السياسيين ضمان نتائج ما يقدم عليه من مناورات، بل إن حسابات احتمالات الربح والخسارة عند الفعل أو عدمه، هي ما يؤثّر في اتجاه الإقدام على تحرك ما. فبالنسبة إلى فلاديمير بوتين، العائد بروسيا إلى سلطوية واضحة، وإن مقنّعة شكلياً بمقدار من الانتخابات التداورية وليس التداولية، لا فائدة من افتعال مواجهة مع الغرب وتقويض الأطر الاقتصادية التي يجني منها الدخل الكفيل بتعمية أزمات بلاده البنيوية. غير أنه لا يستطيع التفريط بهيبته وصورته نتيجة لتدحرج الأمور في أوكرانيا المجاورة، بما يناقض النفوذ الروسي ويظهر أن تأثير موسكو في مصير أوكرانيا ليس قطعياً. حاجته هذه قد تكون منطلق ما دفعه إلى التدخل، غير أن اطمئنانه إلى إمكانية استيعاب رد الــفعل الشكلي من رئيس أميركي، برهنَ بثبات أن لا طاقة لديه للدخول في مواجهات عالمية، ساهم من دون شك في ترجيح كفة التصعيد.
ولا شك في أن الاعتذاريين للرئيس أوباما قادرون على اجتراح تفسيرات لتقاعسه الجديد، بل إظهار تخبطه وكأنه خطة محكمة للوصول إلى هدف منشود، تظهر تفاصيله في وقت لاحق. أما الواقع الذي تؤكده أوكرانيا اليوم، وسورية الأمس واليوم وغداً، أن الحاجة إلى تقييم للسياسة الأميركية وتقويمها بعيداً من إفراط المرحلة الماضية وتفريط المرحلة الحالية، فأمر تقتضيه المصلحة الأميركية والاستقرار العالمي على السواء.