الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من ارتكب مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق.. ولماذا؟

من ارتكب مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق.. ولماذا؟

26.08.2013
محمود الزيبق

القدس العربي
الاثنين 26/8/2013
يوحي التغير السريع في مواقف روسيا بأن جميع الأطراف الدولية أصبحت متفقة على أن مجزرة وقعت في غوطتي دمشق، وإن كان الخلاف والتشكيك ‘سياسيا’ ما زال قائما على نوعية السلاح المستخدم في تلك المجزرة ومن استخدمه.
لا يمكن لعاقل أن ينكر مجزرة بهذا الحجم.. كمُّ الفيديوهات التي نشرت عن الحدث هائل.. كما أنها لم تقع في منطقة صغيرة محصورة، وإنما في عدة مدن هي من أكثر المدن كثافة سكانية في سورية، ففي دوما وحدها يعيش نصف مليون من البشر، وإن كانت الحرب قد نزحت ببعضهم عنها، إلا أن المؤكد أن مئات الآلاف من البشر كانوا في تلك المدن ساعة المجزرة، بعد أن اضطرهم انعـــدام البدائل في المأوى إلى ذلك.
قبل عام وبضعة أشهر ومع بداية المعارك في غوطتي دمشق دخلت سرا إلى تلك المدن لإجراء بعض التقارير التلفزيونية، لم يكن أمام أهلها خيار، لا مكان آخر يتسع لهم ومضايقات النظام وعمليات الاعتقال بناء على انتسابهم إلى مناطق ثائرة أنهكتهم على الحواجز الأمنية، فاضطروا إلى البقاء في مساكنهم، معظم الناس في دوما كانت قد اتخذت من غرف البيت الداخلية مقرا لمعيشتها ومنامها، كثير منهم نقلوا كامل معيشتهم إلى المطبخ الذي يتوسط البناء لتقليل الخسائر الناجمة عن وصول القذائف إلى الغرف التي تطل عادة على الشارع حال وصولها، معظم الأقبية التي كانت مجرد مستودعات أصبحت موئلا للناس الذين يتزاحمون على القليل من الأمان المتبقي فيها، لكن الغازات الكيماوية قادرة على الوصول إلى مناطق لا تصلها القذائف.
في واقع كهذا من الكثافة السكانية وفي عدة مدن لا يمكن إخفاء مجزرة بهذا الحجم، شهادات الشهود التي تعتمد في التوثيق لدى المنظمات الدولية كثيرة، فضلا عن الفيديوهات التي كانت تظهر بوضوح أعراض الإصابة بالكيماوي، مئات المدنيين القتلى الذين لم ينزف أحدهم قطرة دم واحدة، وصور أخرى من آثار القصف على كثير من الحيوانات الموجودة في تلك المناطق الريفية تم نشرها، الحديث عن إنكار المجزرة الذي كان الموقف الأول للنظام السوري ولروسيا (أمر مدبر سابقا) لم يعد واردا الآن، بل أصبح الحديث، من قام بهذه المجزرة وكيف؟
ولكن ألا يبدو غريبا أن يرتكب النظام مجزرة كهذه في اليوم الأول لعمل مفتشي الأمم المتحدة؟ من حيث التاريخ لا أظن أن الأمر غريب، بل ربما يستفيد النظام من هذه الفكرة المنطقية في إثبات المؤامرة التي كانت تفسيره للثورة السورية منذ اليوم الأول لانطلاقها في الخامس عشر من آذار/ مارس عام 2011.
إذا عدنا بالتاريخ قليلا سنذكر أن أول مهمة رقابية على سلوك النظام كانت مهمة المراقبين العرب، وكان الهدف الأول منها هو التأكد من سحب النظام للدبابات والمدرعات من المدن السورية، مع ذلك التقط أولئك المراقبون عشرات الصور التذكارية أمام الدبابات داخل المدن، وخلال المهمة الثانية للمراقبين الأممين ارتكب النظام مجزرة الحولة، مستفيدا من نفس المنطق السائد الآن ‘لا يمكن ارتكاب مجزرة بحضور المراقبين’، كنت بنفسي حاضرا في تلك الفترة داخل حمص التي دخلتها سرا لغرض التغطية الصحافية، وشهدت بعيني مجزرة ارتكبها الشبيحة بالمدنيين في البويضة الشرقية بحمص عقب مجزرة الحولة بأيام، والمراقبون الأمميون على بعد كيلومترات معدودة من موقع حدوثها، لكنهم رفضوا دعوة الأب باولو لهم لحضور الواقعة خوفا على أمنهم.
التساؤل الآخر المطروح على المجزرة: أي نظام يقتل المدنيين من شعبه بهذه الطريقة؟ وأظن أنه منطقي، فما وقع في سورية من مجازر وجرائم اكبر من التصديق، قد يكون تصديق المؤامرة أسهل على الكثيرين ممن لم يزوروا سورية، من تصديق وحشية بهذا الكم، ولو لم أكن سوريا، ولولا ما شاهدت بعيني من سلوك قوات النظام مع المدنيين أثناء تغطياتي الصحافية التي شملت معظم المناطق السورية، لربما خطر لي شيء من هذا الشك.
لا يمكن أن نعالج هذه النقطة، من دون أن نفهم نظرة النظام إلى ذلك الشعب باعتباره عدوا مشروعا وحاضنة شعبية للثورة، وعلى المشكك في هذا مراجعة أرقام الضحايا الذين تم توثيق أسمائهم على عمر الثورة، ليعلم أن النساء والاطفال كانوا يشكلون النسبة الاكـــــبر وليس المقاتلين، ذلك أن النظام لم يكن يقاتل جيشا نظاميا في ساحــــات معــــارك واضحة، وإنما مجموعات تقاتل بطريقة حرب العصابات ومع صعوبة استهدافها، كان النــــظام يعتمد قصف حاضنــــتها الشـــعبية كوسيلة للضغط على تحركاتها وهجماتها، لذلك لا عجب أن وزارة الصحة أو غيرها في سورية لم تصدر إحصاء واحدا لعدد الضحايا منذ بداية الثورة وإلى هذه الساعة.
أليس غريبا أن نجد مخيمات تضم الملايين من اللاجئين في الدول المجاورة لسورية، من دون أن نجد مخيما واحدا للنازحين في مناطق النظام الآمنة طرطوس أو دمشق مثلا؟ ألم يفكر أحد لماذا لم يقدم النظام لأولئك الملايين الستة من اللاجئين في لبنان وتركيا والأردن وكردستان العراق إلا شماتة إعلامه الرسمي كلما حلت مصيبة بهم في تلك الدول؟ هل سمع أحدكم موقفا واحدا رسميا للنظام يعترض على الحملة الشرسة التي تعرض لها مئات الآلاف من السوريون الموجودين في مصر؟
وإذا افترضنا أن المجازر التي قتل فيها آلاف المدنيين من الشعب بأرقام مهولة كانت من عمل العصابات المسلحة، كما يدعي النظام، هل سمع أحد برد فعل رسمي واحد للنظام كإعلان يوم حداد مثلا بعــــد حادثة قـــــتل فيها المئات كمجزرة الغوطتين الأخيرة؟ في يوم المجزرة نظمت احتفالات ورقص وغناء في حديقة جامعة دمشق، تم توزيع الحلوى فيها، ولم يتغير شيء في برامج الإعلام الرسمي الفنية.. ومن دون أن نفهم هذه الصورة لنظرة النظام لأولئك الضحايا من الشعب لا يمكن أن نفهم كيف ترتكب مجزرة كمجزرة الغوطتين.
لكن بعد هذا كله ألا يبقى السؤال عن فاعل المجزرة مشروعا، سبق أن ذكرت مطلع المقال أن تشكيك الدول الكبرى في فاعل المجزرة هو سياسي فحسب، لأن استخبارات الدول تملأ سورية، وتعرف ما يجري فيها تماما، بما فيها الاستخبارات الإسرائيلية وفقا لـ’الصاندي تايمز، وقد حذر رئيس الاستخبارات الإسرائيلية قبل أشهر من أنه لن يسمح بأي تراخ في قبضة النظام على اسلحته الكيماوية، بما يمكن من وصولها إلى مجموعات الثوار، ونفذ أكثر من عدوان جوي مرتبط بتحذيراته تلك داخل سورية، كان آخرها على مبنى البحوث العلمية في ريف العاصمة الذي توسع نفوذ الثوار قربه بشكل كبير.
وأقول ببساطة أكثر لو وصلت أسلحة بحجم غاز السارين والصواريخ القادرة على حمله إلى الثوار لكان التدخل العسكري الدولي أسبق من كل لجان التفتيش، فمن البديهي أن أمن إسرائيل هو الثابت الوحيد للغرب في المنطقة.
يبقى سؤال أخير ما الفائدة المرجوة للنظام من مجزرة بحجم مجزرة الغوطتين، التبريرات التي تناقلتها الصفحات المؤيدة للنظام على الانترنت من أنها ثأر ‘لمجازر’ مفترضة ارتكبها الثوار في الساحل، وأقول انها مفترضة لأن صورة واحدة لم تظهر لتلك المجازر التي تحدث النظام عنها، رغم استعادته السيطرة على كثير من تلك القرى التي يدعي أنصاره وقوع المجازر فيها. كذلك قال بعض مؤيدي النظام انها رد على قصف قام به الثوار قبل يوم واحد على الحارة الشرقية في المعضمية التي تسكنها عائلات ضباط المخابرات الجوية والفرقة الرابعة، لكن تلك التبريرات تبدو سطحية وبعيدة عن الواقع.
يمكن أن يؤخذ بالاعتبار في سبب المجزرة ما ذكرته صحيفة ‘لوفيغارو’ الفرنسية من أن النظام نفذ تلك الضربة استباقا لهجوم متوقع على العاصمة من وحدات كوماندوز مدربة في الأردن كانت تستعد للهجوم على دمشق من غوطتيها، من دون أن نغفل سببا آخر مهما هو تململ بعض الاطراف داخل نظام الأسد من طول المعركة وأثرها على البلاد وأعداد القتلى في صفوف الجيش، لا سيما مع وصول المعارك إلى الساحل الذي لم يشهد إلى اليوم معارك تدمر بناه التحتية كتلك التي شهدتها حمص أو حلب أو ريف دمشق. ومعلوم أن التسويات السياسية الفاصلة الكبرى لا تتم إلا عقب المجازر الكبرى، والكل يذكر أن تقسيم يوغسلافيا جاء تبعا لمذبحة سربرنيتسا في البوسنة.