الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من الانتداب الفرنسي إلى التدخل الروسي

من الانتداب الفرنسي إلى التدخل الروسي

28.09.2015
منير الخطيب



الحياة
السبت 26/9/2015
رعى الفرنسيون خلال فترة انتدابهم على سورية سيرورة تشكل الدولة الوطنية السورية، لذا لم تكن تلك الدولة الوليدة ثمرة الثورات التقليدية المسلحة التي قامت في الأرياف، وانتهت قبل الاستقلال، بل ثمرة الحياة السياسية والثقافية التي تبرعمت في المدن بتأثير الانتداب، الذي نقل الكيان السوري الناشئ من تاريخه السلطاني، المحلوي، ووضعه على مسار مغاير، لتخطّي المحلوية وثقل الإرث السلطاني العثماني.
ومثلما ارتبط نشوء "جنين الدولة الوطنية" السورية بالسياق العالمي لصدمة الحداثة، كذلك فإن انتقال سورية من مرحلة التشكل المتعثر للوطنية السورية، إلى مرحلة طمسها وإجهاضها في سديم ثوران المنظومة القومية الاشتراكية، التي بدأت مع الوحدة المصرية – السورية، وتتابعت مع اغتصاب البعث للسلطة، ارتبط مع تصفية آثار العصر الكولونيالي في المنطقة العربية وغيرها من مناطق العالم، وسيطرة القطبية السوفياتية – الأميركية على العالم وسيادة منطق الحرب الباردة.
لم يكن ممكناً للنظام السوري القيام بتصفية آثار المرحلة الوطنية، لولا انتقاله إلى صف المعسكر الاشتراكي تحت مظلة الحرب الباردة، وقيامه ببناء تفاهمات مزدوجة مع السوفيات والأميركيين معاً. فنكوص سورية إلى ما قبل تاريخها الوطني، كان المعادل الداخلي للنكوص إلى العصر السوفياتي – الأميركي المتأخر عن عصر الاستعمار، الذي كان في الوقت ذاته عصراً تنويرياً وتحديثياً على المستوى الكوني.
في حقبة البعث المتداخلة مع مضامين الحرب الباردة ومتطلباتها، تأسست البنى الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، التي خرجت من أرحامها الحرب الدائرة في سورية حاضراً. فكان لنزع الصفة الوطنية عن الجيش السوري في السبعينات، مع نزعها عن الدولة بعامة، أكبر الأثر في انحداره الراهن إلى مجرد ميليشيا مذهبية، استخدمته السلطة في حربها على شعب"ها"، وساهم الاحتكار المطلق للسلطة والثروة في تلك الحقبة مترافقاً مع تعميم "الثقافة القومية الاشتراكية" في نمو "المجتمع" التقليدي العميق في الأرياف والمدن الهامشية وأطراف المدن الكبرى، كرد فعل على حالة الاستلاب المفروضة على السوريين، مما جعله خزان انبعاث التنظيمات المتطرفة، التي لا تؤمن بالمسألة الوطنية.
لم يتراخ تغول "الدولة التسلطية" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الثنائية القطبية، وازدادت صلادة "المجتمع" التقليدي بتأثير السياسات السلطوية الداخلية التي عمقّت تهميشه من طريق ما عرف بإجراءات "اقتصاد السوق الاجتماعي" التي جمعت بين "الانفتاح" الاقتصادي والانغلاق السياسي، بما يلبي مصالح الأوليغارشية الأقلوية المالية – العسكرية الحاكمة. كما كان استدعاء "المجتمع" التقليدي من قبل النظامين السوري والإيراني، من خلال دعم التنظيمات الإسلامية المسلحة، بهدف الضغط على الوجود العسكري الأميركي في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، من عوامل تفعيله عسكرياً وسياسياً وأيديولوجياً.
لخصّت الثورة السورية، التي انفجرت في آذار (مارس) 2011، تاريخ الكيان السوري: فالحراك الشبابي السلمي، المدني في البداية، كان يستبطن العودة إلى سورية ما قبل تاريخها البعثي، في حين أن حرب السلطة والحرب المضادة لها بعد خنق الحراك السلمي، تنتمي جذورهما ومقدماتهما إلى صميم التاريخ البعثي.
ويأتي التدخل الروسي الحالي في سورية، بعد مضي ما يقرب من قرن على دخول الفرنسيين إليها، مسجلاً فرقاً كبيراً عن الانتداب الفرنسي بداية القرن الماضي، هو ذات الفرق بين حالة صعود الوطنية السورية وحالة انهيارها الراهنة.
وعلى رغم عدم اتضاح حدود التدخل الروسي بعد، ومدى تنسيقه مع الإدارة الأميركية والقوى الإقليمية الفاعلة في الوضع السوري، فإن وقوف روسيا بقيادتها البوتينية طيلة خمس سنوات خلف النظام السوري، عسكرياً وسياسياً، بهدف كسر إرادات السوريين التواقة للتغيير، وحنينها إلى بعث ماض إمبراطوري فاقدٍ للمعنى الكوني، وعارٍ من أي إرث ديموقراطي وتنويري، وتراكب سياساتها ومواقفها مع واقع الحرب في سورية، وتحولها إلى عدو قومي بنظر غالبية السوريين، وانحيازها التاريخي إلى خيارات مماثلة لخيار غروزني في التعاطي مع التطرف الإسلامي، يشي بأن هذا التدخل سيسهم في تعميق التحاجزات بين السوريين واحتجاز البدائل الوطنية الممكنة.
* كاتب سوري