الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من الذي يلعب بالنار.. روسيا أم حلف الناتو؟

من الذي يلعب بالنار.. روسيا أم حلف الناتو؟

02.12.2015
د. أحمد القديدي



الشرق القطرية
الثلاثاء 1/12/2015
مع حادثة إسقاط الطائرة المقاتلة (سوخوي 24) الروسية بنيران تركية يوم الثلاثاء الماضي على الحدود بين تركيا وسوريا ونشر منظومة إس 400 الصاروخية الروسية في سوريا وزيارة الرئيس (هولاند) لموسكو تتشكل أمامنا لوحة سريالية غامضة الملامح ضبابية الألوان لم نألفها من قبل، حيث أصبح المشرق الإسلامي يعيش أكبر حشد غير متحالف وغير متجانس من قوات الأمم الكبرى والإقليمية تقول قياداتها السياسية إن لا مناص من الحرب!. والحرب لأول مرة في التاريخ الحديث لا تشن ضد دولة معادية.. بل ضد عدو هلامي لا يزال بصدد التكوين في شبه دولة غير مسبوقة ولا مثيل لها، لكن لا حدود لها ولا علاقات دبلوماسية تحدد مكانتها على رقعة الأمم ولا حتى إحصاءات تضبطها. فعندما أعلن الرئيس الأمريكي بوش الابن حربا ضد أفغانستان بعد عملية 11 سبتمبر 2001 كان يحارب دولة طالبان التي لها عقيدة وحدود واعترفت بها دول أخرى وعندما غزت القوات الأمريكية العراق، كان العراق دولة ولديها رئيس وحزب حاكم ودول تسندها. أما اليوم في سوريا فإن بوتين يعتمد "شرعية" ظاهرها على الأقل يخضع للقانون الدولي عبر دبلوماسية المعاهدات وهي أن حكومة دمشق التي وصفها بالشرعية تقدمت للحكومة الروسية بدعوة لتفعيل اتفاق دفاع مشترك بين البلدين موقع سنة 1974 في ظروف مغايرة تماما للواقع الراهن، لكنه شهد تجديدا وتحيينا مطلع 2014 ليتحول إلى اتفاق ثلاثي سوري إيراني روسي. والشرعية الملحقة بالأولى أعلنها منذ شهر رئيس الحكومة الروسية (ديمتري ميدفيديف وهو الذي يتبادل مع بوتين كرسي الرئاستين: الدولة والحكومة)، حين قال لقناة فضائية إن روسيا تدافع عن أمنها بتدخلها العسكري في سوريا، لأن آلاف المقاتلين للنظام السوري منضوون تحت تنظيم الدولة الإسلامية هم من الشيشان والقوقاز عموما. وانضمت شرعية ثالثة إلى هذه الشرعيات وهو ما صرح به الناطق باسم الكرملين السيد (بيسكوف) حين قال: "إننا هنا لننتقم لضحايا الطائرة المدنية الروسية الذين قتلهم تنظيم الدولة الإسلامية بين شرم الشيخ وبيترسبوج وتبنى العملية باسم ولاية سيناء التابعة لأبي بكر البغدادي". طيب!، ركز معي يا قارئي الكريم لنحلل معا طبيعة هذه الشرعيات الثلاثة: الحجة الأولى وهي الاستجابة لدعوة النظام السوري للمساعدة العسكرية كان يمكن أن تكون مقنعة لو جاءت سنة 2011 أو سنة 2012 أو حتى سنة 2013 عندما كانت تلك المساعدة قادرة على أن تغير الموازين الميدانية لصالح الدولة السورية وذلك بتقديم الدعم اللوجستي والرفد العسكري للجيش السوري حين كان في أوضاع داخلية وإقليمية أفضل من اليوم وقبل أن تتغير المعطيات الميدانية بشكل مختلف، لأن الساحة السورية تحولت إلى دغل معقد ومتشابك من التدخلات إلى جانب هذا وذاك من الأطراف المتقاتلة وأحيانا إلى جانب الأضداد معا ولم تعد موسكو في الواقع قادرة موضوعيا على تبين طريق الانخراط في الحرب بلا عقيدة عسكرية ولا أهداف سياسية ولا خارطة طريق حتى لو قررت الانسحاب. أما الحجة الثانية التي صرح بها (ديمتري ميدفيديف)، أي التدخل لحماية الأمن الداخلي لاتحاد الجمهوريات الروسية من المقاتلين الشيشان والقوقازيين المنضوين تحت لواء التنظيم، فهي حجة غريبة، لأنه لو تحركت كل دولة لديها مواطنون من شبابها يقاتلون في صفوف التنظيم لتحولت ساحة الوغى السورية إلى ما يشبه الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة لكن برفع الكلاش للقتل لا برفع الأيدي للتصويت. فالتنظيم يضم حوالي 90 جنسية من عربية وإسلامية وآسيوية وإفريقية وحتى صينية وهندية وأمريكية. ثم إن الشيشان (والقوقاز عموما) يضم ملايين المسلمين منذ سنة 18 هجري، أي منذ الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعانى المسلمون من عهد القياصرة إلى عهد الشيوعية السوفييتية إلى عهد يلتسين وبوتين حروب الإبادة والتهجير والقمع، كانت آخرها دك (جروزني) بالقنابل وقتل عشرات الآلاف من المسلمين المدنيين إلى ملاحقة المخابرات الروسية للرئيس الشيشاني السابق (سليم خان يندرباييف) واغتياله في مدينة الدوحة وهو خارج من صلاة الجمعة في فبراير 2004. أي أن تمرد المضطهدين الشيشان قديم جدا منذ ثورة الإمام شاميل في القرن التاسع عشر إلى اليوم. اليوم تطرأ حادثة إسقاط الطائرة المقاتلة فوق تركيا وتزج بأنقرة في قلب الأزمة وتضع المنطقة على فوهة بركان وأدرك المراقبون الغربيون بأن تلك الحجج الروسية لا تصمد أمام الأسباب الحقيقية للانخراط الشامل في الحرب ضد ما يسمى الإرهاب وهي أسباب تتعلق بالمصالح الحيوية لروسيا ومنها خطوط الأنابيب الحاملة للغاز الروسي نحو المستهلك الأوروبي ودور المعبر التركي لإقامة هذه الخطوط، بما يخدم الاقتصاد الروسي الذي يعول على تصدير الطاقة الغازية ومن أجل هذا ربما أصبح التبادل الاقتصادي والتجاري بين موسكو وأنقرة ذا أهمية محدودة رغم أنه بلغ 36 مليار دولار سنويا ويحظى بتوازن مستمر بلا خلل أو تراجع، بالإضافة إلى الأربعة ملايين سائح روسي الذين يزورون تركيا سنويا. وتعتبر أنقرة من جهة أخرى أن أمنها مرتبط باستقرار جبال تركمان التي يكابد أهلها ذوو الأصول التركية هجومات السلطة السورية والأكراد، خاصة منذ 2011 ولعل إسقاط السوخوي فوق هذا الإقليم هو الإنذار الأقوى للكرملين بتحديد فضاء ضرباته وعدم المس من التركيبة العرقية والثقافية للتركمانيين، لأن كل تحوير عنيف ودموي لهذه التركيبة سيمس من أمن تركيا بعمق ويفجر صراعات قديمة جديدة سوف تزيد من تعقيد الأزمة وإبعاد أمل الحلول السلمية.