الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من القبة السوفيتية إلى الحبة الروسية

من القبة السوفيتية إلى الحبة الروسية

02.11.2016
عيسى الشعيبي


الغد
الثلاثاء 1/11/2016
كلما وقع المرء على إخفاق دبلوماسي روسي من العيار الثقيل، وتملكته الحيرة إزاء حالة التخبط التي تعيشها موسكو في عهد قيصرها الجديد، اشتد لديه الحنين إلى زمن الاتحاد السوفيتي، الذي كان قطباً معادلا لنظيره الأميركي، وكان صاحب رؤية ودور ورسالة، وفي الوقت نفسه صديقاً لحركات التحرر العالمية.
كان الاتحاد السوفيتي يعرف كيف يعمل من الحبة قبة؛ يحافظ على صورته، ويتقن فن أداء الصراعات العالمية الباردة وخوض الحروب الإقليمية بالوكالة. فيما روسيا الاتحادية، وريثة السلاح النووي وحق "الفيتو" والأمجاد السوفيتية الغابرة، تعرف، بالمقابل، كيف تعمل من القبة حبة، وتدخل نفسها بنفسها في معارك خاسرة.
مناسبة هذا الحديث أملتها سلسلة من الهزائم والإخفاقات الدبلوماسية الروسية المتراكمة على مدى الأسابيع القليلة الماضية، آخرها فشل موسكو في الحصول على مقعد في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وهو صفعة قاسية، بل وفشل فادح لا يليق بدولة تنافس على الزعامة العالمية.
وأحسب أن هذه الهزيمة المنكرة، كانت أشد وقعاً، وأبلغ قسوة من تلك التي لحقت بموسكو في مجلس الأمن الدولي، حين طرحت مشروع قرار خائب بشأن سورية، لم ينل سوى ثلاثة أصوات، ناهيك عن التقريع الذي طال المندوب الروسي على هواء البث المباشر لدى تصويته ضد القرار الفرنسي في تلك الجلسة التي أظهرت مدى عزلة روسيا في المحافل الدولية.
ومن لديه رغبة في تتبع جملة الإخفاقات الروسية، لن تفوته واقعة استخدام القوات الجوية لهذا البلد الكبير قاعدة همدان الإيرانية، لتشديد القصف على حلب، ومن ثم طردها بعد مرور نحو أربع وعشرين ساعة، جراء تبجحات موسكو بالحصول على قاعدة حربية، ومبالغتها في التعبير عن مثل هذا الإنجاز الاستراتيجي الذي أثار حفيظة وسخط الجمهورية الإسلامية.
ولماذا يجهد المرء نفسه بتتبع مسالك الدبلوماسية الروسية العاثرة، وبالأمس القريب كان قائد أركان القوات الروسية يطلب من القائد الأعلى، عبر وسائل الإعلام، السماح له باستئناف قصف حلب، فيجيبه بوتين في كتاب مفتوح، أن من غير المفيد استئناف القصف في هذه الآونة، في مشهد لا يذكّر بتقاليد جيش نظامي.
ففي بلد يصوّت فيه مجلس الدوما على قرارات بوتين بنسبة مائة في المائة (أين التسعة والتسعون في المئة لدى الأنظمة العربية الاستبدادية)، وليس فيه إعلام مستقل، ولا ديمقراطية أو شفافية، ويمسك الرئيس بمقاليد القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، هل كان هناك داعٍ لمثل هذه الدراما الهزلية المضحكة المبكية؟
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد من فقدان الدليل وانعدام البصيرة لدى دولة لا نشاهد منها غير آلتها الحربية، حين يرى المرء ذلك الربط التعسفي الروسي المفتعل بين الموصل الواقعة في قبضة "داعش" الإجرامي، وبين حلب التي يدافع عنها أبناؤها ببسالة منقطعة النظير، ضد الجناح الجوي الروسي، الموظف في خدمة المليشيات الطائفية.
لم يعد يثير تشكيك موسكو المستمر بوقوع جرائم وحشية في حلب ومحيطها، أي دهشة لدى أغلبية المراقبين، لاسيما بعد أن مُسكت متلبسة بقصف المستشفيات وقوافل المساعدات، ثم أنكرت الصور المبثوثة بالصوت والصورة، طالبة لجنة تحقيق دولية. وحين تصدر لجنة التحقيق تقريرها الموثق بالدلائل القطعية، تذهب موسكو في تملصها من الجريمة إلى حد الطعن بحيادية اللجنة الدولية.
يبدو أن روسيا في عهد بوتين نسيت أن الشعوب لا تُهزم، وأنها على قناعة أن استعادة الأمجاد الروسية التليدة لن تأتي إلا عبر استخدام القوة العسكرية المفرطة، واللعب على حافة الهاوية، إلى درجة التلويح بحرب عالمية ثالثة، من دون أن تدري أن ذلك يصغّر من مكانتها الدولية، ويلقي عليها عبئاً لا يناسب وضعها الاقتصادي الحرج، وقد لا يوصلها إلى أي مكان بعد انقضاء فترة السماح الأميركي الوشيكة.
إزاء ذلك كله، يكون من غير التعسف القول، إن القبة الكبيرة التي كانت بحجم الإمبراطورية السوفيتية السابقة، تملأ عين الشمس، قد آلت إلى حبة صغيرة على يدي بوتين، الضائع في المتاهة السورية، المتحسب لانجراف أبعد مدى، قد يرغمه على تجرع مرارة كأس أفغاني جديد، إذا ما قرر الغرب اللعب معه من تحت الطاولة.