الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من "جنيف" إلى "أوسلو"

من "جنيف" إلى "أوسلو"

14.07.2014
عمر قدور



الحياة
الاحد 13/72014
إذا بقيت التطورات الميدانية في سورية ضمن الاتجاه نفسه، لن يكون مستبعداً أن تفقد كتائب المعارضة سيطرتها على مدينة حلب، وعلى قسم كبير من أريافها، ومثل هذا التطور لا يُقارن بفقدان مواقع استراتيجية أخرى كالقصير ويبرود، لأن فقدان الأخيرتين يُعزى إلى وقوعهما على الحدود اللبنانية، أي في جوار دولة "حزب الله" الحليفة للنظام. ربما، على هذا الصعيد، يمكن النظر إلى الانسحاب من كَسَب لمصلحة قوات النظام على أنه مقدمة لإعادة تموضع إقليمي، لأن كسب كانت آخر نقطة حدودية تربط النظام بتركيا، وإذا تلتها حلب التي "لمّحت القيادة التركية من قبل إلى أنها خط أحمر" فذلك لا يعني قدرة النظام على تخطي الخطوط الحمرَ، وإنما تخلي القوى الدولية والإقليمية عن الضوابط السابقة. فضلاً عما سبق، لعودة حلب إلى سيطرة النظام أثر معنوي هائل على المعارضة يساوي، أو يزيد على أثر خروجها عن سيطرته قبل سنتين.
مع ضغط قوات النظام على حلب، مدعومة بحصار "داعش" أقساماً منها، كان ائتلاف المعارضة يعقد مؤتمره لانتخاب قيادة جديدة، وكان أصدقاء المعارضة يعبّرون عن دعمهم للائتلاف. أي أن المستوى السياسي هو الذي يحصل على الدعم الذي يبدو المستوى العسكري بأمس الحاجة إليه، بالتزامن مع تعيين مندوب دولي جديد خلفاً للأخضر الإبراهيمي. في الواقع، باتت الإشارات الدولية واضحة جداً في الأشهر الأخيرة، ومفادها: ندعم ما نعتقد بأنها معارضة معتدلة، لكننا لا نثق بالقوى العسكرية على الأرض. بالأحرى، وعلى رغم الإشارات الغربية إلى دعم الكتائب المعتدلة، لا يخفي أصحابها تحفظهم الشديد عن أي نوع من السيطرة على الأرض. المطلوب هو تحجيم العسكر، بعد انتقاء "المعتدلين" منهم، وصرف النظر عن فكرة تبعيتهم للمستوى السياسي، أي إبقاء استقلالية تمويلهم ودعمهم.
إصرار القوى الدولية على عدم وجود حل سوى الحل السياسي، لا مبرر له من وجهة نظر كثرٍ من السوريين والقوى الإقليمية، إلا إذا كان المبرر هو ما يجري اصطناعه حالياً من محاصرة المستوى العسكري وتصفيته عملياً بدعوى محاربة التطرف، بدل الافتراض الذي لم يُجرّب القائم على دعم المعارضة المعتدلة لتولي المهمة. هذا قد يعني رمي المسؤولية على النظام، وهو على الأرجح سيكون سعيداً باستعادة الورقة التي بنى عليها طويلاً تفاهماته مع الغرب، لكن مصدر الحبور الأهم بالنسبة إليه سيكون الحصول على قبول دولي مضمر ببقائه، ومن أجل ذلك يهون كل شيء، فكيف إذا كان الثمن المطلوب ما يعتقد بأنها المهمة التي برع فيها سابقاً؟
كانت استقالة الإبراهيمي إعلاناً عن فشل مؤتمر جنيف، وتعيين خلف له على أرضية الفشل السابق لا يحمل مدلولاً مؤثراً إلا لجهة البناء على سقف أدنى من بنود "جنيف- 1" التي كانت مثار خلاف في "جنيف - 2". هنا، لن يكون مستبعداً ترحيل الحل السياسي من "جنيف" إلى "أوسلو"، مثلما حصل قبل عقدين بترحيل المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية من مدريد إلى أوسلو. هذه النقلة تستدعي تجاهل أساس المفاوضات الحالي، بحجة أنه مدعاة لخلاف شديد، والبدء من الأطراف والهوامش الأسهل، بنية الوصول في وقت ما إلى التفاوض على القضايا الجوهرية. أيضاً ستترتب على ذلك جاهزية الطرفين لتقديم تنازلات متبادلة، ولا يصعب التكهن بأن أول تنازل مطلوب من المعارضة هو الاعتراف بشرعية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتخلي عن شعار إسقاط النظام.
كما نعلم، بُني اتفاق أوسلو على مفهوم السلطة الذاتية مع إبقاء الصلاحيات السيادية في يد إسرائيل، وتركها على طاولة المفاوضات في عملية طويلة ومعقدة. في سورية، ما يطرحه حلفاء النظام، ويتقاطع في الجوهر مع ما يطرحه أصدقاء المعارضة، هو إبقاءُ نظام أمني مركزي قوي يستطيع الإمساك بملفات الإرهاب، وبما أن النظام الحالي اختُبر سابقاً فهو مرشح للبقاء مع بعض التحسينات. أيضاً، يطرح حلفاء النظام فكرة توسيع صلاحيات الحكومة على الصعيد الإداري مع توسيع صلاحيات الإدارات المحلية، ذات الدور الهامشي حالياً، وبقاء الصلاحيات السيادية في يد الرئاسة. الفكرة الأساسية خلف هذا التصور هي إرضاء المناطق المتمردة بمنحها نوعاً من الإدارة الذاتية المرتبطة بالحكومة، بخلاف قضايا الدفاع والأمن والحدود والمرافئ. التقاء هذا التصور مع الحكم اللامركزي ليس بذي شأن لأنه لا يستوحي الأسس المعروفة لما هو شائع، بل يبني أولاً على ما بات يُعرف بالمصالحات المحلية التي يعقدها النظام مع بعض المناطق الثائرة، ويتخلى بموجبها عن سيطرته المطلقة السابقة على الثورة، فضلاً عن تعاطيه مع المصالحات بالمفرّق، أي عدم وجود ناظم مؤسسي تُبنى عليه، بل تكون لكل منها شروط وبنود خاصة.
بعبارة أخرى، بعد فشله في استعادة السيطرة التامة السابقة، لم يعد النظام متمسكاً أو بالأحرى قادراً على التحكم المطلق، مثلما لم يعد قادراً على الإيفاء بالمتطلبات الخدمية والاقتصادية لكل المناطق. لذا، لن يمانع في منحها سلطات ذاتية لا تمس سيادته على الملفات الأساسية. وقد لا تمانع القوى الغربية في تسوية من هذا القبيل تحفظ في الدرجة الأولى ما تريده من إمساك بالملف الأمني، والخلاف بينها وبين حلفاء النظام لا يتعدى الخلاف على الأشخاص، إذ يصطدم في كل مرة بما يسمى عقدة الأسد، مع التنويه بأن هذه العقدة تتجه لتكون عقدة سورية فحسب، بعد بروز مؤشرات إلى قبول غربي ببقاء الأسد، أقله ما دام "داعش" وأخواته في الساحة السورية والإقليمية.
في ما مضى، كانت تصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة شرطاً للمكاسب السياسية التي حصلت عليها منظمة التحرير، وبدا واضحاً في زيارة رئيس الائتلاف السابق واشنطن أن الإدارة الأميركية منحت لبعثة الائتلاف لديها اعترافاً ديبلوماسياً في الوقت الذي تجاهلت رئيس الأركان الموجود في عداد الوفد. لكن الأهم أن الرغبة الأميركية في تنحي الأسد كانت طوال السنوات الماضية توازي عدم الرغبة في إسقاط نظامه، وبدا منذ الإقلاع نهائياً عن فكرة الضربة العسكرية أن الإدارة لن تغامر في أي دعم عسكري قد يسقِط النظام، وكما يبدو، لم تعد تريد أيضاً لجنيف تأدية هذه المهمة.