الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "من حذرك كمن بشرك"

"من حذرك كمن بشرك"

18.12.2013
فواز العلمي



الوطن السعودية
الثلاثاء 17/12/2013
لا يوجد في تاريخ البشرية دولة واحدة خالية من الأخطاء أو معصومة من كيد الأصدقاء وحقد الأعداء، لذا لجأت معظم دول العالم إلى إنشاء مراكز للدراسات الاستراتيجية لتوفير البدائل لصناع القرار ودفع الأضرار والدفاع عن المصالح
هل تعلم أنه في كل 11 دقيقة تعبر مضيق "هرمز" في الخليج العربي ناقلة نفط عملاقة لنقل 75% من نفط العالم، منها 15% لأميركا و25% لأوروبا و60% لشرق آسيا؟ لذا قامت إيران بتاريخ 30 نوفمبر 1971 باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث عنوةً، وهي: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، اللتان تتبعان إمارة رأس الخيمة، وجزيرة أبو موسى، التي تتبع إمارة الشارقة، وذلك بعد انسحاب بريطانيا من هذه الجزر بنحو 48 ساعة فقط.
وهل تعلم أنه لأول مرة منذ 25 سنة، أعلنت أميركا في 14 نوفمبر 2013 بكل فخر واعتزاز أن إنتاجها من النفط الخام تجاوز وارداتها للمرة الأولى منذ عام 1995، ليرتفع متوسط إنتاجها إلى 7,7 ملايين برميل يومياً، مما أدى لانخفاض وارداتها من النفط إلى أدنى مستوى لها منذ 10 فبراير 1991؟ وتتوقع الحكومة الأميركية أن يبلغ متوسط إنتاجها من النفط 8,5 ملايين برميل يومياً في العام المقبل، لتتوقف تماماً عن استيراد النفط من دول الخليج العربية.
كما ولأول مرة منذ 34 سنة أجرى الرئيس الأميركي في الشهر الماضي مكالمة هاتفية مع الرئيس الإيراني، ليثير زوبعة غاضبة في الكونجرس الأميركي الذي اتهم الإدارة الأميركية بتخليها عن أهم شركائها ومصالحها في دول الخليج العربي.
ومع علمنا بهذه الأحداث، ما زالت معظم دولنا العربية تعتقد أن دول العالم الأخرى لن تجازف بتغيير سياساتها الحميمة تجاهنا حتى لا تفقد أواصر محبتنا وتتراجع عواطف صداقتنا وشعوبنا، لذا خلد الوطن العربي للراحة وأغمض أعينه حالماً ومقتنعاً بدوام علاقته الأبدية المميزة مع دول العالم الأخرى، فأصبحنا غير عابئين بالمتغيرات الإقليمية والعالمية التي تزخر بالمصالح ولا تعترف بالعواطف والأواصر. ولعل خلودنا للنوم والراحة أدى إلى تباين مواقفنا العربية وتراجع نفوذ قوتنا الذاتية نتيجة افتقارنا لأهم مقومات اتخاذ القرار السليم وتصحيح خارطة الطريق، المتمثلة في مراكز الدراسات الاستراتيجية ومبادىء العصف الذهني، التي أحسنت دول العالم في استخدامها لتحذيرها من مغبة ردة أفعالها غير المدروسة وتبشيرها بنجاح خططتها المدروسة وسياساتها الحكيمة.
ورغم غياب مراكز الدراسات الاستراتيجية عن معظم دولنا العربية لاعتبارها مؤسسات بحثية تسعى فقط لإنتاج الأبحاث والدراسات النظرية في المجالات المتعددة، إلا أن دول العالم الأخرى لجأت بكامل قواها إلى تطويرها ودعمها بكافة الوسائل لخدمة سياساتها العامة ومصالحها الحيوية وتوفير الرؤية المستقبلية لصانعي قراراتها. فكان أول ظهور لهذه المراكز في بريطانيا سنة 1831 تحت اسم "المعهد الملكي للدراسات الدفاعية"، بينما بدأ أول مركز للأبحاث في أميركا بعد تأسيس معهد "كارنيجي" سنة 1910، ثم معهد "بروكينجز" عام 1916 ومعهد "هوفر" سنة 1918. وانتشرت هذه المراكز والمعاهد في معظم دول العالم، فأصبح عددها 550 مركزاً في أفريقيا و1197 في آسيا و1790 في أوروبا، في حين فاق عددهها 2712 معهداً في أميركا و420 في الصين و292 في الهند و697 في أوروبا و322 في اليابان وروسيا.
أما في عالمنا العربي فلقد انخفض عدد هذه المراكز والمعاهد من 67 إلى 54 مركزاً خلال السنوات الأخيرة نتيجةً لغياب العمل المؤسساتي، وضعف التمويل، وتدني مستوى العصف الذهني، وانعدام الهوية الوطنية، إضافةً إلى تراجع الأولويات والخلط بين البدائل والخيارات ورفض صُنّاع القرار لتصويب سياساتهم وبناء إستراتيجياتهم وتطوير رؤيتهم، لكونها تتعارض مع قضايا الدولة واستقلالية قراراتها الانفرادية. ولقد أدى ضعف مراكز الدراسات الاستراتيجية في الدول العربية إلى غياب دعم صانع القرار لهذه المراكز والمعاهد، وعدم ارتياح الحكومات العربية لنتائجها البحثية، بالإضافة لقناعتها بأن المراكز الأجنبية أكثر جدوى ومصداقية من المراكز الوطنية. كما ساهم غياب المراكز العربية عن مجريات الأحداث العالمية في تدهور سمعة الوطن العربي وتراجع صورته وتباعد وتيرة حضوره في المؤتمرات الدولية وغرق خبرائه في الاقتباس والتقليد وغيابهم عن الموضوعية والجدية.
ولعل العالم العربي يعلم أن الاستفادة من قدراته ودراسة احتياجاته لتطوير ذاته والدفاع عن مصالحه تؤدي إلى تفوقه على أقرانه، بينما خلوده للنوم والراحة يؤدي إلى تغيبه عن حقوقه وخسارته لمكانته وتمكين الأعداء من استباحة مقوماته والاستفادة من أخطائه. فبينما أيقنت الدول الناجحة أن مراكز الدراسات الإستراتيجية ومعاهد العصف الذهني تمنحها القدرة على تغليب العقل في قراراتها وتسخير خبراتها في تنمية قدراتها، خلدت معظم الدول العربية للنوم والراحة لتعيش فترة من الغيبوبة المطلقة عن مجريات الأحداث ومعظم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، مما ساهم إلى حد كبير في استباحة مقدراتها وانحسار قوتها وتراجع مواقفها.
ليومنا هذا، لا يوجد في تاريخ البشرية دولة واحدة خالية من الأخطاء أو معصومة من كيد الأصدقاء وحقد الأعداء، لذا لجأت معظم دول العالم إلى إنشاء مراكز للدراسات الإستراتيجية ومعاهد العصف الذهني لتوفير البدائل لصناع القرار ودفع الأضرار والدفاع عن المصالح. والدول العربية جميعها في أمس الحاجة إلى مثل هذه المراكز والمعاهد لكي تنتبه للأخطار المحدقة بمسيرتها وتصبح شديدة الحذر من آلاف المطبات وملايين الحفر التي تعتري طريقها، فنتائج إهمالها وخلودها للنوم والراحة تزيد من تفاقم أحوال شعوبها وتعصف بأهدافها وقضاياها. علينا لفت الانتباه واستشراف المستقبل وطرح الحلول والبدائل أمام ولاة أمرنا للتصدي للأزمات وتوضيح المعالم والتحذير من العواقب.
صدق رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب عندما قال: "مَنْ حَذَّرَكَ كَمَنْ بَشَّرَكَ".