الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من حقنا أن نحلم لسوريا.. إنما

من حقنا أن نحلم لسوريا.. إنما

19.03.2014
سوسن جميل حسن


السفير
الثلاثاء 18/3/2014
ونحن ندخل العام الرابع في انتفاضة الشعب السوري، سأشطح بخيالي قليلاً وأتخيل سوريا بعد مدة (غير مرصودة). سأتخيل المجتمع السوري، الذي يُنتهك ويتمزق ويتشرذم، ويُدفع باتجاه الماضي مستعيداً القبلية والعشيرة والملة والطائفة، تستعر عصبياته من جديد، فتلوح بوادر الانقسام والتقسيم والتنافر وعدم القدرة على الاشتراك في وطــن. سأتخيله وقد رتق نسيجه المهلهل وتعافت جروحه وندوبه، وانطلق في بناء دولته الحديثة القائمة على التعاقد في وجه أنظمة مستبدة، دينية أم سياسية، كما هو حالنا اليوم، حيث سيكون الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، وإرادته هي المرجعية الوحيدة.
أليس من حقنا أن نحلم؟ أم لا زلنا، برغم تصدع جدران الخوف تحت ضغط الزلزال السوري، نخاف من أحلامنا، ولم نتحرر بعد من الرقيب المتعدد المقيم في نفوسنا؟
بقدر ما يستدعي الواقع السوري من تأمّل ورصد لكل ما يعتريه على الصعيد المجتمعي والسياسي والميداني، بقدر ما يحتاج إلى الخيال ووضع صورة أكثر إنسانية وقدرة على الحياة، ثم البحث عن أدوات وسبل الوصول إليها أو تحقيقها.
من معوقات تقدم الحالة السورية إلى الأمام، ومن الأسباب التي ساعدت في انقسام الشارع السوري، هو الانجراف العنيف مع الأحداث المتلاحقة والمتسارعة والمتشابكة ومع العنف والتجييش الطائفي والمذهبي، وتراجع إمكانية التفكير والبحث عن خيارات، إذ انحصرت الخيارات السياسية في ذهنية الناس في نسقين: إما قبول نظام الاستبداد بجوره لأنه يحفظ الأمن والاستقرار ويحمي من الفوضى، حتى أن شريحة من الشعب صارت تتحسّر على المرحلة السابقة لآذار 2011، أو انهيار السلطة وما سوف ينجم عنه من فتنة وتوسيع دائرة الحرب الأهلية والدخول في سراديب مجهولة، ستصل بالدولة والمجتمع والوطن إلى الهلاك.
هذا الانزلاق السريع نحو المواقف الفكرية والعملية الجامدة والمتصلبة له مبرراته، أولها إن الثورات عموماً هي فعل مباغت مفاجئ يشبه الانفجار المتولد عن الضغط، لكن ليس بالضرورة أن يكون فعلاً ناضجاً مكتملاً، يقوم بهذا الفعل الشعب الذي يقع تحت الظلم والاستبداد بكل شرائحه، يجمع أفراده الرغبة في التخلص من النظام السائد المسؤول عن معاناتهم. لكن هل خاتمة الثورات هي دائماً الانتصار والفوز بمطامح الشعب الثائر؟
إذا استرجعنا المشاهد التي ما زالت حاضرة في البال منذ انتفاضة الشعب السوري في آذار 2011، سوف نرى أن البداية كانت زاخرة بشعارات ولافتات وهتافات تحمل أفكاراً واعدة حول العدالة الاجتماعية والديموقراطية والمساواة والعدالة والمواطنة ودولة المؤسسات والدولة المدنية وحقوق الإنسان، وغيرها كثير من المفاهيم التي، على ما يبدو أو كما أظهرت التجربة الدموية والمريرة في هــذه السنــوات الــثلاث، هي مفاهيم مجردة رمزية لم تدخل الوعي الجمعي لتصبح دالة علــى معناها الحقيــقي. ولو تابعــنا المشهــد بتسلســله الزمني وتحولاته لرأينا أن الشــريحة الأكبر فــي التظاهــرات كانت هــي شريحة الشــباب، وشــريحة الناشطين الميدانيين كانت أيضاً لمصلحة الشباب، والمناطق الأكثر والأبكر انتفاضاً كانت تلك المناطق المهمشة الفقيرة والأقل حظاً عن غيرها. شباب كانوا يقبعون في الظل مقموعين مقهــورين مهــدوري الحــقوق فاقدي الأمل والعمل والطـموح، يراقــبون أولئك الشباب الآخرين ممن فُتحــت لهم "طاقـات القدر" والنِّعم، فقط لأن آباءهم كانت لهم فرصة الاستئثار بثروات البلاد واحتكار فرص الحياة بلا جهد وبلا بصمة يتركونها على واقع الحياة العامة سوى الاستهلاك والانزلاق إلى ملذات الحياة، يمارسون ما يحلو لهم بفــجور، لأنهــم فــوق القــانون، طالما هم تحت حماية سلـطة، في ظل شراكة لا تنتمي إلى قوانين الاقتصاد المعروفة، إنما إلى قوانين الفساد والاستبداد.
هؤلاء الشباب كانوا نواة التمرد والانتفاض، ثم لحقهم الشارع بشرائح أخرى. لكن الغطاء السياسي كان قاصراً وعاجزاً عن احتواء هذا الاندفاع وتحويله في الاتجاه السليم، بالإضافة إلى العنف الذي قوبلوا به. فقد أظهرت الوقائع الميدانية والتحولات التي طرأت على انتفاضة الشعب السوري أن النخبة السياسية، مع احترام تاريخ أغلبها وما قدموا من تضحيات باكرة في مواجهة الطغيان، لم ترقَ في أدبياتها وممارساتها وتجاربها إلى المستوى القادر على الحياة، بل هم بقوا أسرى الفكرة التاريخية عن الثورات في تجاربنا، الثورة التي غايتها الإطاحة بالنظام الحالي والوصول إلى السلطة.
سقوط الأنظمة بشكلها الحالي وشموليتها وممارسة طغيانها واحتكاراتها وإقصاء الشعب عن المشاركة في صنع حياته، هذا السقوط هو ضرورة وحاجة حتميتان على الصعيد الإنساني، لكن سقوطها لا يعني أبداً الفوز وتحقيق تطلعات الشعوب الثائرة، إذ ليس المطلوب هو استبدال سلطة بسلطة تماثلها أو تعيد تجربة الحكم وإنتاجه بطريقة تؤدي إلى استبداد. الثورات الواعدة هي التي ترنو إلى المجتمع وتعمل على البنى المجتمعية وعلى تقريب المفاهيم والمفردات الخاصة بالدولة المدنية إلى عقول الأفراد حتى يعي الفرد فردانيته ويكون أهلاً لممارستها في هذا النطاق.
الواقع الحالي يظهر بصورة صادمة مدى تمكن علاقات الانتماء والولاء والقرابة والروابط الدينية الأكثر شمولية من نفوس العامة، وابتعادهم عن الشعارات واللافتات التي كانت ترفع في بداية الحراك الثوري السوري.
لا بد من وقفة تأمل ونقد ذاتي وجردة حساب إذا كنا نريد التقدم ولو بخطوات بطيئة إلى الأمام، نحن بحاجة إلى اجتماع العقول والضمائر التي يجمعها حب الوطن وهموم الوطن، وعدم الاستئثار بطرح الإمكانيات والخطط والألعاب السياسية بحجة حق الأبوة والثمن المدفوع سابقاً، الشباب أكثر قدرة على الإبداع وهم أيضاً الطاقة الكامنة التي علينا احترامها ورعايتها اكثر.