الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من خلفيات التقارب التركي الروسي

من خلفيات التقارب التركي الروسي

14.08.2016
د. محمد مصطفى علوش


الشرق القطرية
السبت 13/8/2016
لقاء أردوغان بوتين تلبية لدعوة روسية كانت وُجهت له قبل الانقلاب بُعيد رسالة الأسف المشهورة، سمحت للبلدين أن يندفعا مسرعين نحو تعزيز التفاهمات المشتركة، وإدارة الخلافات بعيدًا عن مجهر الإعلام. وقد ترجم لقاء الزعيمين بتصريحات تركية تظهر لينا تجاه الملفّ السوري وتؤكد حقًا واعترافا للوجود الروسي في سوريا بل وتباركه وكأنه حق طبيعي. وتدعو لتنسيق معها في مواجهة "الإرهاب". روسيًا كانت الاستجابة سريعة بدورها، إغلاق قنصلية الكرد السوريين في موسكو.
ما من شك أن الملفات المشتركة بين البلدين عديدة، الملف السوري مهم للغاية لكنه لا يقدم على الملف الاقتصادي بتاتا، فالبلدان بينهما مصالح مشتركة في السياحة والتجارة والترانزيت البحري ومشاريع عملاقة تسيل لعاب البلدين لتحقيقها تتمثل في سيل الغاز الروسي العابر للحدود التركية نحو دول الاستهلاك في القارة العجوز، فضلًا عن تنامي أهمية سواحل تركيا مع الاكتشافات النفطية والغازية الواعدة في البحر المتوسط.
وتتقارب وجهتا نظر روسيا وتركيا حول أغلب القضايا الإقليمية والدولية باستثناء الملف السوري. أما اليوم، فلا أردوغان شديد التصلب في عدم الاعتراف بسيطرة روسيا على جزيرة القرم رغم التصريحات التركية الرسمية الرافضة لعملية الضمّ، ولا بوتين قلق من تحقيق تركيا مزيدًا من الاستقلالية عن حلفائها في الناتو، أو رافضًا لنفوذها في الشمال السوري، ورغبتها المشاركة في هندسة التسوية السورية.
يعلم الجميع أن حولًا كاملًا أوشك على الاكتمال منذ غزت "عاصفة السوخوي" الروسية سماء سوريا وأرضها، ولم تحقق موسكو إنجازا حقيقيًا يتناسب مع ميراثها الاستعماري التاريخي، أو يعزز الهيبة الروسية التي يرغب بوتين فرضها على العالم اليوم.
الانخراط الروسي العسكري في سوريا استحال استنزافًا مستمرًا، مستدعيًا إلى الذاكرة عقدة الهزيمة السوفيتية أمام منظمات جهادية في أفغانستان، تعمل موسكو جاهدة أن تمحوها من الذاكرة الجمعية لشعبها. وهي تدرك اليوم أكثر مما مضى أنها بحاجة ماسة للعلاقة مع تركيا لأسباب أبعد من الطموحات الاقتصادية التي ستقضي على الحصار المضروب عليها أوروبيا على خلفية قضمها جزيرة القرم.
لم يعد تجاهل النفوذ التركي في الشمال السوري مفيدًا للروس، كما هو الحال بالنسبة للأمريكان. ولم تعد نكاية أردوغان "بوتينيًا" بالإصرار على حضور مندوب حزب العمال الكردستاني بنسخته السورية على طاولة المفاوضات بين النظام والمعارضة مجديًا للمصالح الروسية.
راهنًا، تدرك روسيا أن النفوذ التركي على الفصائل المسلحة في الشمال السوري كافٍ لوحده أن ينقذ روسيا من مستنقعها الجديد إذا ما أوجدت قواسم مشتركة معها. وأن علاقة متينة مع أنقرة سيخفف التأجج والتوتر بين المكونات ذات الأصول التركية في جزيرة القرم وداخل أراضي الاتحاد الروسي. وهذه المكونات تأتي في المرتبة الثانية عدديًا بعد "السلاف" الذين ينحدر منهم بوتين.
بدورها، أدركت تركيا أنه لا مكان للمبادئ في عالم السياسة أو دنيا الواقع الدولي. السياسة ليس فيها حسن نوايا ولا بطولات زائفة أو شجاعة متوهمة. الأقوى هو من يضع القانون، وهو من يصنف هذا حق وهذا باطل، هذا إرهاب وهذا نضال. وأن الهرولة وراء مصالحها وما يستتبع ذلك من مرونة بالغة هو ما يحفظ لها حقوقها أو يحمي مجالها الحيوي من التآكل.
وإذا كانت الولايات المتحدة فشلت في اختبار المرونة في مواجهة التحديات حين تعاملت بعدم اكتراث كبير مع هواجس حليفها التاريخي، تركيا، فإن روسيا نجحت في أن تضفي على مواقفها الثابتة تجاه حلفائها مثل النظام السوري، مرونة توحي بأنها لا تتخلى عن أصدقائها وقت الحاجة، ولا تطعن حليفا في ظهره، ولا تتجاهل يدًا تُمدّ لها.
بمقارنة بسيطة بين الحليف الأمريكي تاريخيا الذي يراوغ ويماطل ويؤخر في التعاون في ملف تسليم فتح الله جولن، ومستعد للتضحية بالعلاقات مع تركيا من أجل المراهنة المغمورة على فصيل كردي في سوريا، وبين روسيا التي ما إن لمست أنها تقف على ارض صلبة في العلاقة مع تركيا الجديدة حتى أوحت أنها مستعدة للتخلي عن أي حليف محتمل إذا كان ذلك يكسبها حلفًا مع تركيا. وقد ترجم هذا سريعًا في الملف الكردي.
وفجأة بين ليلة وضحاها، لم تعد تركيا داعمة للإرهاب وتسرق النفط العراقي أو تشتريه من تنظيم الدولة وتبيعه للخارج، ولم تعد تركيا تتوجه نحو تطرف إسلامي كما صرح بوتين يومًا. بل تُقدم كشريك فاعل في محاربة الإرهاب في المنطقة.