الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من سينتصر في سوريا.. الإنسان أم غيره؟

من سينتصر في سوريا.. الإنسان أم غيره؟

21.06.2013
د. محمد عاكف جمال

البيان
الجمعة 21/6/2013
الربيع العربي مشروع خطير للتغيير في منطقة الشرق الأوسط، حقق حتى الآن نجاحات باهرة لم تكن متوقعة. فقد أسقط أنظمة قوية في سلسلة أحداث مثيرة لجدل سيظل على مدى سنوات طويلة قادمة يؤرق المختصين في استراتيجيات التغيير، حول توقيته ومبرراته وآليات عمله وسر قوته، وإقليمية أو دولية جذوره وقياداته، وتداعيات ما آل إليه. أطل هذا الربيع لأول مرة بحلة بيضاء نظيفة على تونس، وسرعان ما تلطخت ببعض الدماء حين مر بمصر، وازداد احمرار هذه الحلة حين تجول في شوارع المدن الليبية، وتحول بالتمام إلى ربيع دموي في سوريا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الحرب الدائرة في سوريا بين أبناء البلد الواحد، تجاوزت في وحشيتها ودمويتها الحرب التي تنشأ بين دول معادية لبعضها. المدن السورية تُدمر بمنهجية وعنف، حقوق وحريات هذه الفئة أو تلك تنتهك بشكل همجي، الكل في دائرة الخطر، أطفال يُجندون لزجهم في جحيم المعارك، المستشفيات أصبحت مواقع عسكرية يجري استهدافها، المزارع تحرق حتى لو كانت الأمهات في المناطق المجاورة يبتن على الطوى ويحرمن أنفسهن من كسرة خبز لتوفيرها لأطفالهن الجياع، إذ لم تعد سلامة البنى التحتية للبلد خطا أحمر يعرض من يتجاوزه لمواجهة تهمة الخيانة.
والحقيقة أن وصول عدد ضحايا هذه الحرب إلى ثلاثة وتسعين ألف قتيل، حسب التقرير الصادر عن الأمم المتحدة مؤخرا، يوضح حجم المعاناة التي يمر بها البلد، وعمق الجراحات التي قد لا تندمل حتى لو توقف الصراع باتفاق بين طرفيه، وهو أمر أصبح مستبعدا، أو بانهيار أحدهما. فقد تصاعدت درجات الحقد والقساوة بشكل لا يصدق، حتى في التعامل مع ضَعف من أخرجته جروحه من ساحات القتال.
أما تداعيات الصراع الأخرى فهي لا تقل خطورة عن ذلك، حيث حصد جلها الأطفال والنساء، فقد حُرم جيل من الأطفال من التعليم، بسبب الهجرة إلى الدول المجاورة وإغلاق المدارس في مناطق الصراع التي تحول بعضها إلى معسكرات اعتقال، كما أصبحت المرأة هدفا سهلا للاصطياد، داخل سوريا أو في مخيمات الغربة والضياع في الخارج.
والآن يوشك أن يحدث ما توقعه الكثيرون وحذروا من خطورته، وهو تحول الأراضي السورية إلى ساحات حرب إقليمية لتصفية حسابات خطيرة، تغذيها أوهام التاريخ وملفاته البالية. الحرب في سوريا دخلت طورا جديدا ينذر بتصاعد سعيرها، بعد أن أعلن حزب الله اللبناني بشكل صريح دخوله حلبة الصراع وإصراره على توسيع عملياته فيها، من منطلق ما ادعى أنها مسؤولية شرعية! ردود الفعل لذلك صدور فتاوى الجهاد هنا وهناك.
على المستوى الدولي نجحت الجهود السياسية والدبلوماسية التي بُذلت لحمل الإدارة الأميركية على التخلي عن ترددها، فقد أصدرت إدارة الرئيس أوباما قرارها باتهام النظام السوري باستخدام السلاح الكيمياوي مرات عديدة، وتجاوز خطوط حمراء سبق لهذه الإدارة أن وضعتها. وبهذا الاتهام فُتح الباب على مصراعيه لتقديم المساعدة العسكرية للمعارضة، وإعداد المسرح وتهيئته للصدامات الأخيرة وسط رفض وتشنج في الموقف الروسي.
مرور ما يقرب من ثلاثين شهرا على اندلاع الثورة في سوريا، وتراوح زخمها وتذبذبه بين مد وجزر، سمح للمنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، بغض النظر عن درجة حياديتها، برصد مسارات الأحداث والتمعن في ممارسات طرفي الصراع وإصدار أحكام بذلك، إذ لم يعد ممكنا، إلا في حدود ضيقة، إخفاء الممارسات المعيبة واللا إنسانية التي زخرت بها ساحات الصراع، في ضوء ما يتوافر حاليا من قدرات متاحة تقريبا للجميع لتوثيق ما يجري من أحداث بالصوت والصورة، فورا وفي مكان حدوثها.
فعلى الرغم من منع المنظمات الإنسانية الدولية من دخول الأراضي السورية لتقديم المساعدة أو التحقيق في بعض التجاوزات الخطيرة كاستخدام الغازات السامة، رصد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انتهاكات لا تحصى لاتفاقية جنيف، داخل المعتقلات وفي ساحات القتال وفي التعامل مع الجرحى والأسرى، ودان في بيانه الصادر في الرابع عشر من يونيو الجاري، الأعمال الإرهابية وأعمال العنف التي تعمل على تأجيج التوترات الطائفية، وجدد دعمه للدعوات التي تطالب بتحويل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.
حين تستيقظ النزعات الوحشية لدى الإنسان ويتراجع ما خلا ذلك في ساحات القتال، وحين يختلط الحابل بالنابل وتستحضر كل دُمل الماضي لتوظيفها في الصراع لغرض تأجيج وحشيته وتوسيع نطاقه، كما يجري في سوريا، تتضاعف مسؤولية الثورة والقيادات التي تسعى للتغيير وتجد نفسها ملزمة بالتعبير عن نفسها حضاريا بشكل متميز، كي تحقق الانتصار الذي تنشده.
إذ لا يمكن لثورة أن تكون ممارسة من ينتسب إليها بمستوى ممارسات من ينتسب للنظام الذي أعلنت تمردها عليه، وإلا ما حازت على هذه التسمية. السجالات بين الثورة وبين النظام في سوريا لا تقتصر على المبارزات السياسية والعسكرية فحسب، وإنما الأخلاقية كذلك، حيث يسعى كل طرف لتوظيفها لصالحه أمام الأسرة الدولية، التي لم تعد تتقبل ممارسات لا تتفق مع ما للإنسان من حرمة
. أحداث اليوم سيقرأها آخرون بعد عشرات ومئات السنين ليحكموا على هذه المرحلة، ما لها وما عليها، فالتاريخ لن يسجل ما يدور في ساحات المعارك من كر وفر فحسب، وهو لم يعد مجرد سجل يسطره المنتصر لينقل على هواه ما يرغب في نقله إلى الأجيال اللاحقة.
الثورة على نظام قائم تُحسن من فرص نجاحها متى ما انتصرت عليه حضاريا وإنسانيا في مجمل القضايا التي تتعلق بالصراع، ابتداء من الملف السياسي وانتهاء بالملف الإنساني الذي يتعلق بحسن وإنسانية التعامل مع الأسرى ومع عذابات الجرحى ومع جثامين القتلى، ومع مشاكل المدنيين الذين حوصروا رغم إراداتهم في ساحات الصراع، ومع حرياتهم ومعتقداتهم وأحلامهم.
تنتصر الثورة على النظام القائم متى ما تمكنت من توظيف كل ما يمت للإنسان من قيم حضارية سامية، تتجاوز الانتماء الضيق عرقيا ودينيا ومذهبيا ومناطقيا، قبل أن تنتصر عليه في ساحات الصراع العسكرية.