الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من وليد المعلم إلى جميل حسن: أسباب التآكل قبيل الانقراض

من وليد المعلم إلى جميل حسن: أسباب التآكل قبيل الانقراض

14.07.2019
صبحي حديدي


القدس العربي
السبت 13/7/2019
نقلت وسائل إعلام النظام السوري أخبار اجتماع غير بيدرسون، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، مع وزير خارجية النظام وليد المعلم، في دمشق، هكذا: "جرى خلال اللقاء بحث تشكيل لجنة مناقشة الدستور وآليات وإجراءات عملها، حيث كانت وجهات النظر متفقة بين الجانبين على أن العملية الدستورية هي شأن سوري وهي ملك للسوريين وحدهم وأن الشعب السوري هو وحده من يحق له قيادة هذه العملية وتقرير مستقبله من دون أي تدخل خارجي". وبذلك فإنّ تقارير وسائل الإعلام تلك قد تغافلت، تماماً، عن حقيقة وصول بيدرسون إلى العاصمة السورية قادماً من موسكو؛ الأمر الذي يعني أنّ الملفات معلّقة في العاصمة الروسية أيضاً، أو لعلها تُحسم ــ إن حُسمت، في أي يوم ــ عبر بوّابات الكرملين، أوّلاً وأساساً.
وتحت قبّة ما يُسمى "مجلس الشعب"، أعلن عمار الأسد، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، أن موافقة بريطانيا وفرنسا على إرسال قوات إلى شمال سوريا "لا يخرج عن أوراق الضغط المصحوبة بالتهويل لتحقيق أي مكاسب في تلك المرحلة التي تجري فيها مناقشة أسماء أعضاء اللجنة الدستورية". وأضاف نجل بديع الأسد، أحد أبناء عمومة رأس النظام، أنّ "السوريين يناقشون في الوقت الراهن أسماء اللجنة التي ستقوم بإعداد الدستور الجديد للبلاد، وهذا يؤكد أنهم يريدون تعطيل العمل بأوامر أمريكية، لأنهم كانوا يريدون فرض صيغ يرفضها الشعب السوري الذي يؤكد حرية قراره واستقلاليته ووحدة الأرض وعدم التنازل عن المقدسات".
هذان نموذجان يجسدان حقيقة أنّ النظام السوري، في المستوى الدبلوماسي والسياسي الرسمي، لم يتعلم الكثير من الدروس خلال ثماني سنوات ونيف من عمر الانتفاضة الشعبية السورية وانتقال ملفات البلد بين أكثر من عاصمة إقليمية ودولية، وأكثر من مركز قرار وإدارة. وهذه الحال من الإدقاع، أو المراوحة في المكان بما تعنيه من إصرار على إعادة إنتاج الماضي، تشمل أيضاً ممارسات أمنية/ عسكرية صرفة، وأخرى أمنية/ استخباراتية، وثالثة أمنية/ سياسية، ورابعة أمنية/ دعاوية… ترتكز، في الإجمال، على الخطاب الديماغوجي أياً كانت درجات افتضاحه في ضوء الحقائق الساطعة خارج دائرة النظام؛ وعلى تفضيل العنف، أياً كان هزال مكاسبه الميدانية بالمقارنة مع عواقبه الجسيمة.
وهكذا، في المعرفة الأمنية/ العسكرية، ازدادت "خبرات" ضباط الفرقة الرابعة، أسوة بصفّ ضباطها وأفرادها، العاملين مثل المجنّدين، في كيفية انقلاب استباحة حيّ، أو قرية أو بلدة أو مدينة بأسرها، إلى رياضة باردة جديرة بالقاتل المأجور، أو القاتل المرتزق، أو القاتل الشبّيح. وفي غمرة هذا الازدياد، تتنامى طرائق القيام بدور الأداة الطيّعة، وأنماط الوفاء لشبكات الولاء المرتبطة بمنظومات مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية متباينة أو متجانسة، لا تغيب عنها غرائز الانضواء الطائفية أو العشائرية أو المناطقية. كأنّ القتال صار عندهم معركة وجود أو عدم، ليس ضدّ شرائح واسعة من مواطنيهم المسالمين العزّل وحدهم، بل أيضاً ضدّ "الوطن" الذي ينتمي إليه المتظاهر، بوصفه خائناً أو مندساً أو عميلاً أو سلفياً أو
يستوي أن يبقى الحسن على رأس الجهاز الدموي، أو يُحال إلى التقاعد فيتقدّم بديله الذي كان قائد الظلّ؛ ما دامت طرائق عمل الجهاز لا تتابع نهج التوحش ذاته فحسب، بل تضيف إليها المزيد من التنويعات والأفانين
وفي واحد من أبرز مستويات هذه الحصيلة أنّ الفرقة الرابعة، بوصفها نخبة نخب ما تبقى من تشكيلات عسكرية في حوزة النظام، انسلخت عن شخصيتها العسكرية بأي معنى مهني أو تعبوي أو لوجستي؛ فصارت عيّنة مصغّرة عن عصبة أو عشيرة أو طائفة، أو لعلّها في الواقع كفّت عن الحاجة إلى أي تصنيف ومسمّى، ما خلا أنها أداة دفاع عن النظام، صمّاء عمياء بكماء! وليس غريباً، إذن، أن ينشب قتال بين كتائب هذه الفرقة، والكتائب التي يقودها سهيل الحسن في صفوف الفيلق الخامس، التشكيل العسكري ــ الميليشياتي الجديد. هنا تتفتّق نوازع، عصبوية وعشائرية وطائفية، كانت كامنة في باطن شبكات الولاء ذاتها؛ فتتوزّع بعد التفتّق، وتسير في مسارب أكثر تلبية لـ"خبرات" العنف.
وفي مستوى المعرفة الأمنية/ الاستخباراتية، حدث مراراً أن أصيب ضابط مثل اللواء جميل حسن، رئيس جهاز استخبارات القوى الجوية حتى عهد قريب، بعُصاب من طراز جنوني خاصّ، تفاقمت أعراضه الباثولوجية بين حدّين أقصَيَن: إرضاء الحلقة الأمنية العليا (الضيّقة، المغلقة، التي لم يحظَ بـ"شرف" الانضمام إليها)، عن طريق استعراض عضلات جهازه، وارتكاب المزيد فالمزيد من الفظائع؛ وبين العجز عن نيل ذلك الرضا العسير، لأنّ نتائج العنف لا تعطي الحصيلة المرجوة التي ينتظرها سادة اللواء. وفي هذه الحال يستوي أن يبقى الحسن على رأس الجهاز الدموي، أو يُحال أخيراً إلى التقاعد فيتقدّم بديله الذي كان نائب اللواء وقائد الظلّ؛ ما دامت طرائق عمل الجهاز لا تتابع نهج التوحش ذاته فحسب، بل تضيف إليها المزيد من التنويعات والأفانين.
ولن يعثر المرء على أحد من زبانية النظام يمكن أن ينوّع، فكيف أن يخالف، تفاصيل مشهد خضوع النظام لإرادة روسية طاغية هنا، أو إملاءات إيرانية أقلّ طغياناً هناك؛ وهنا أيضاً تستوي الأداة الإعلامية، مع أداة العنف والبطش، وأداة النهب والفساد. الكون السوري، وفق منظور رأس النظام، كان ويظلّ مؤامرة على حكم "ممانع" و"مقاوم"، حاكها الغرب فخرج النظام فيها منتصراً (لا يمرّ شهر، في واقع الأمر، إلا ويعلن أحد وجوه السلطة أن "المؤامرة" انتهت وصارت وراء النظام).
والكون السوري، عند الأسد دائماً، ثمّ عند زبانية النظام على اختلاف مراتبهم، مثال يُحتذى في الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورأس النظام جدير بقيادة المعمورة في أربع رياحها وليس سوريا وحدها، كما هتف أحد دُمى ما يُسمّى "مجلس الشعب" ذات يوم. وأمّا "الإصلاحات" التي ناقشها بيدرسون وأسلافه في مهمة المبعوث الأممي، فإنها لا تأتي، إذا أتت حقاً، إلا وقد صار اعتمادها وراء المطلب الشعبي الفعلي، وأدنى بكثير من سقوفه، ولم تعد قيمتها تساوي الحبر الذي كُتبت به، فكيف بالدماء الزكية التي أُريقت في درب المطالبة بها على وجه أمثل، غير مزيّف وغير ملفّق.
ورغم أنها تأتي في المرتبة الأخيرة من هواجس نظام آيل إلى اهتراء، ولا تواصل ضمان بقائه سوى التدخلات الخارجية للقوى العظمى، فضلاً عن قوى إقليمية تبدأ من إيران وتركيا ولا تنتهي عند دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ فإنّ "المعارف" الدبلوماسية لأمثال وليد المعلم وفيصل المقداد وبشار الجعفري تطلّ على استحياء بين حين وآخر، حين تشترطها اعتبارات خارجية أساساً. على غرار ذرّ الرماد في العيون بصدد التعامل مع مبعوثي الأمم المتحدة أو تحركات بريطانيا وفرنسا على الأرض السورية مؤخراً، أو ــ في الذروة الأعلى، بالطبع ــ مقابلات الأسد الصحافية التي باتت، على قلتها، رياضة مفتوحة في التشدق اللفظي واستغفال العقول. أو على قياس ما ذهب إليه المعلّم من إزالة أمم بأسرها من الخريطة. بيد أنّ الدبلوماسية ليست، بالطبع، هذه الـ"حرتقات" الصغيرة، بل هي أيضاً ذلك التبرّم الذي يعتري خطاب حلفاء النظام، من روسيا إلى الصين إلى إيران؛ وارتفاع "المنسوب"، اللفظي على الأقلّ، للتوصيفات التي صارت تصدر عنهم لدى الحديث عن حاضر ومستقبل سلطة آل الأسد.
والخلاصة في هذا كلّه أنّ "خبرات" النظام، من وليد المعلّم إلى جميل حسن مروراً بابن بيت السلطة عمار الأسد، لا تُراكم إلا أسباب الاهتراء والتآكل، المفضية بالضرورة إلى انقراض.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس