الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من يوميات عملي في "الوكالة العربية السورية للأنباء" (سانا) ببداية الثورة: طيور عمياء

من يوميات عملي في "الوكالة العربية السورية للأنباء" (سانا) ببداية الثورة: طيور عمياء

13.01.2014
عماد مفرح مصطفى


المستقبل
الاحد 12/1/2014
الثقوب التي خلفتها آثار الطلقات على جدران الأبنية والمحلات، بدت للحظة، كعيون سوداء غائرة في محاجرها، تحدق بصمت ووجوم، وكأن الروحَ غادرتها للتو. على جانبي الطريق، الخالي من الأشجار، يخيم ارتياب ما، يزيد من حيرة الهواء والوجوه، يمنع المارة من التحديق في بعضهم البعض، مخافة أن ينكشف سر ما؛ سر يتحول في إثره أي عابر، بين لحظة وأخرى، إلى متظاهر يهتف بصوته، ويتحول الآخر، إلى رجل أمن، يحوله خوفه من "رعب الإبادة" إلى آلة قتل، تلك التي مرت من هنا ليلة أمس.
آثار الدخان الأسود والإطارات المتفحمة في وسط الشارع بادية للعيان، يتخللها، قطرات دماء يابسة، كخيط أحمر رفيع، يختفي بارتباك في شارع فرعي مقفر بين البيوت الشاحبة للحي البائس، حيث بقع الأصبغة السوداء، تغزو ببشاعتها، الجدران الحجرية القديمة على طول الطريق، وتخفي خلفها كتابات المتظاهرين السريعة على الجدران.
"كل الشوارع باتت تفيض بالخوف والحرية والتاريخ"، كنت أرددها من مكان ناء ومعزول في داخلي، حين أدار المصور الجالس في المقعد الأمامي من السيارة وجهه باتجاهي، قائلا:
"الظاهر انها كانت حميانة هون مبارح ..!!" يضيف كلامه بتنهيدة واضحة وحركة من رأسه، " معقول هاي سوريا، معقولة؟!!".
في ذلك الصباح البارد الرتيب، من صباحات أذار، كنت في طريقي إلى مشفى تشرين العسكري بدمشق، لتغطية خبر تشييع بعض عناصر الجيش. شيء ما كان يقبض على قلبي، يمنعني من التفكير سوى بأناس غرباء سأصادف أحزانهم بعد حين، هناك، مفجوعين بأولادهم وأحبابهم وأصدقائهم. حزن شفيف معلق في الهواء مع بداية الربيع، يجعلني أتخيلُ نفسي كنسر أعمى، من نسور الرخمة منتوفة الريش، وقد اختلطت أمامه جثث الأموات بأجساد الأحياء، تتفسخ جميعها بأرقام نكرة، تفتح أبواب العدم، وتتحول الحياة في إثرها، كما لو أنها مصنوعة من مادة غرائبية، تنتمي إلى نسق شبحي فقدت الصلة بالآخر، قبل أن تلعنه وتطلب له الموت.
على المدخل الرئيسي للمشفى تتصدر صورة كبيرة للرئيس، تتوزع على جانبيه، متاريس من أكياس رملية مبنية على عجل. يشير لنا الجندي، الذي يبدو عليه الأرق من ليلة الأمس، بالدخول، يبادله السائق والمصور، اللذان اعتادا المجيء إلى هنا كل صباح، الإبتسامة الرتيبة ذاتها. ألمح الفوهة المعتمة والموحشة لبندقية الجندي، ووجهه الخائف من رصاصة ما تأخذه إلى المجهول.
الحيرة التي تلف البلاد بأسرها، تتجسد هنا، في الساحة الصغيرة حيث مراسم التشييع كل صباح. الحيرة تتبدى في وجوه الضحايا، ووجوه الضباط والمدنيين، وجوه النسوة والأطفال. حيرة ملتبسة عن هوية الجاني ووزر الضحية، عن جحيم التاريخ وهواجس الجغرافيا وبؤس المعتقدات. حيرة الحياة ذاتها في تفسير فعل الموت، الذي يتحول إلى سلعة ما، إلى إجراء وظيفي واعتيادي بالنسبة للعاملين في المشفى، يصفون طريقة إنتاج الموت وكيفية حدوثه، ودقته ولحظاته الأخيرة: " لازم تاخذوا الشهادات المختومة، راح تنفعكون كتير منشان المعاملات بمؤسسات الدولة.. لا تنسوا تتأكدوا من الأسم الثلاثي لكل شهيد.." ينادي أحدهم في أهالي الضحايا الملتفين حول الساحة، حاملا بين يديه رزمة من الأوراق، وعلى كتفه رتبة /مساعد أول/. يسترسل في شرح مزايا الوثيقة، لأحدهم. لا يلبث أن يقطع حديثه، ويبتعد خطوات عدة خلف سيارة الإسعاف، ليرد على هاتفه المحمول، ذو النغمة الغريبة - جزء من خطاب الرئيس الراحل- تتغير ملامحه الصارمة، وتكشف ابتسامته عن سن ذهبية، ولهجة بدوية، شبيهة بلهجة ابناء المحافظات الشرقية. يبتعد أكثر بهاتفه، متجنبا صوت آلة "السكسفون"، القادم من جهة الفرقة الموسيقية الخاصة بالمراسم العسكرية، حيث يترنم عازفها، بأغنية لعلي الديك. يتوقف العازف فجأة، حين يعلق قائد الفرقة عصاه القصيرة في الهواء، بحركة استعراضية، طالبا من العازفين الاستعداد للبدء بمراسم التشييع.
ثلاثة توابيت محملة على أكتاف الجنود، تخرج تباعا من باب المشرحة. يصمت الجميع، بينما يبقى الجنود واقفين تحت ثقل التوابيت، ينتظرون نزول ضابط المراسم من سيارته الحديثة المركونة على مسافة قريبة. للحظات، ينزل الضابط ويرمي عقب سيجارته على الأرض، قبل أن يمعسها بطرف حذائه الأسود اللامع على طريقة أفلام "الكاوبوي". يضع قبعته العسكرية، ويلتفت إلى صورته المنعكسة على زجاج نافذة سيارته المدنية، يصفف خصلات شعره النافرة من تحت القبعة، ذات اللون الأخضر الباهت. يمسح بحركة سريعة من يده النياشين التي تزين سترته العسكرية، يتنفس بعمق حابسا الهواء في صدره، كي يبدو بارزا ومهابا. يتقدم منه، أحد الجنود بخشوع، حاملا على راحتيه سيفا في غمده. يحني الجندي برأسه ويرسم على وجهه ابتسامة، لا تخلو من التزلف والخضوع، يعقد الضابط السيف على خصره، بعد أن يشير بيده، أمرا الجندي بالوقوف بالقرب من السيارة وحراستها.
يبدأ التشييع، في اللحظة التي يستل فيها ضابط المراسم سيفه، محييا الجثامين المحمولة على الأكتاف. يسير بخطوات عسكرية على وقع موسيقى لحنّي الشهيد ووداعه. اسمع نواحا مكتوما، نداءٌ يتهاوى في فج عميق، لا يلبث أن يتهادى، قبل أن يعلو ويعلو في زغردة مكلومة، يتبعها صوت بري بغناء يخالطه البكاء، صوت يرفرف غريبا فوق رؤوس الحاضرين. لا أحد يفهم لغتها الكردية، وسر صوتها المعذب، وهي ترثي ولدها المجند / ك. ع/، تبدو نائية بحزنها وكلامها، تغنيه كما ولو كان عريسا. تسري رعشة ما في جسدها الريفي المتهدل، تبحث عن شيء يضمها، تتهادى بين ذراع امرأة تقف إلى جوارها، امرأة تلبس فستانا ذات أزهار سوداء كبيرة، وتربط رأسها على طريقة أهل حوران.
من وراء زجاج نوافذ غرف المشفى، المطلة على مكان التشييع، بعض الأشخاص يحدقون بصمت، كأنهم يتخيلون موتهم المتهادي على الأكتاف، والصدفة التي ابقتهم على قيد الحياة. من إحدى النوافذ، كان أحد الجنود المصابين يقوم بأداء تحية عسكرية صارمة لجثامين رفاق السلاح ومن نافذة أخرى، كانت ممرضتان، بثياب بيضاء ووجوه مصبوغة بألوان مكياجهما الفاقع، تتابعان المشهد، ولا تكفان عن شرب "المتة".
قبل وضع التوابيت في سيارات الإسعاف، اندفعت ثلاث ممرضات تحملن صور الرئيس، وتهتفن بحياته خلف النعوش، بينما كان مصور التلفزيون الرسمي، يلاحقهم بكاميرته. صرخت الأم الكردية البائسة، حين دعست إحدى الممرضات الهاتفات على طرف صندلها البلاستيكي البالي.
تداخلت الجموع خلف التوابيت المركونة في سيارات الإسعاف، في اللحظة التي تردد فيها صوت أحد الجنود مطالبا أهالي الضحايا بالوقوف في صف واحد، "وبطريقة حضارية"، حتى يتسنى لمدير المشفى مصافحتهم، وتقديم واجب التعزية. للحظات ارتبك الأهالي في معرفة طريقة الوقوف، أمام الضيف الكبير، ذي النسور والنجوم المعقودة على كتفه المتراخي. بعد شد وجذب، وقف الأهالي صامتين وصاغرين، لكن المدير الواقف على باب مدخل البناء لم يتقدم، طلب من أحد مرافقيه، جلب مصور التلفزيون الرسمي لتصويره، لحظة دخول الساحة، وأثناء مصافحة الأهالي.
وضع مصور التلفزيون كاميرته جانبا، وراح يمسح عرقه ويتمتم بتذمر ونظرات حاقدة، بعد أن انتهى من تصوير المدير الذي أعاد اللقطات والمشاهد لمرات عدة، تقدم ضابط بدين وبملامح باردة وخشنة من المصور:
"بأي نشرة اخبار راح تطلعوا خبر التشييع؟ منشان خبّر مرتي.."
" نشرة تمانه ونص! ".
" انتو أي قناة.. ؟"
"أي قناة؟! ليش في قناة غير القناة الرسمية مسموح إلها تصور هون؟!"
بعد تشييع ثمانية جثامين، كان علينا انتظار وصول الجثمان التاسع من المشفى العسكري بالمزة، وتشييعه وفق الأعراف والنظم العسكرية. تحركت سيارات الإسعاف، وقل عدد الحاضرين، وعاد صوت السكسفون بنفس الأغنية للمطرب الشعبي، على وقع الصوت الغاضب لضابط المراسم، وهو يوبخ الحارس المكلف بحماية سيارته:
" ولك حيوان، كيف انخدشت السيارة ؟"
لك دولاب هاي السيارة، بتسوا كل عيلتك يا ابن الجحش..كيف ما انتبهت؟"
ثمة خدش على شكل خط طويل حديث، ظهر بفعل آلة حادة على باب سيارة الضابط، أثناء قيامه بتشييع الجثامين. خدش اعتبره الضابط تهديدا لأمنه الشخصي. تفرس في وجوه الجنود الواقفين أمامه بوجل، قائلا: "أنتو ما بتجو غير بالدعس والصرمايه" " شعب ما بيفهم إلا بالدعس والفعس". وعاد شاتما الجندي، ذو السحنة الفلاحية، والنظرات المرتبكة وهو يراقب كبرياءه يتمرغ رويداً رويدأ في التراب، كانت الأصابع المرتعشة للجندي تمسد بمواساة على هيكل سيارة الضابط، بحركة خفيفة ووادعة، وكأن السيارة وحش جريح. تقدم جندي آخر من الضابط وحمل عنه السيف مبتسما..
وقفت الممرضات الثلاث بالقرب من حائط المستشفى، تتشمسن، وتنتظرن الجثمان الأخير. بدا حرصهن واهتمامهن، واضحا بصور الرئيس التي يحملنها. كانت إحداهن تتلمس وجهها، وتتحدث عن "كريم لتجميل البشرة"، اعتادت أن تتدهن وجهها به، كل مساء خلال السنوات الماضية، إلا أنها الآن تفتقده. قالت بإنها كانت تحصل على ذلك الكريم الطبيعي من لبنان، عن طريق أحد اقربائها الضباط، الذي كان يخدم بالجيش السوري في لبنان حينها. انهت حديثها بتنهيدة طويلة، وابتسامة شاحبة، لأنها لا تجد ذلك الكريم، حتى في الصيدليات التي تتوفر فيها الأدوية المهربة.

توقفت شاحنة صغيرة "سوزوكي"، أمام باب المشرحة، ترجل منها ثلاثة شباب بهيئة بائسة وفقيرة، همس المصور في إذني قائلا:
" الظاهر هدول قرايبينو للمندس المقتول جوا "
" أي مندس؟!!".
يحذرني بحركة من فمه وحاجبيه، مخافة أن يسمعه أحدهم، قبل أن يدلني بحركة من رأسه. أمضي إلى باب المشرحة، وأقف في الممر، إلى جوار أحد الشبان القادمين لأخذ الجثة. الشاب يدخن بنهم بينما يتحدث الآخران، همساً، في نهاية الممر مع ضابط يحمل ورقة ما. أسال الشاب عن ظروف الوفاة. يحدق في وجهي الفضولي، بشيء من الاحتقار، ربما يظنني رجل أمن. أعرف عن نفسي وعن مهنتي كصحافي. يردد لنفسه، بشيء من التهكم كلمة: " صحافي.. صحافي" !!. أعيد السؤال بطريقة أخرى، عن مكان الحادثة، وطريقة الوفاة.
يرد وعيناه تحدقان بحزن إلى الجثة المسجاة في نهاية الغرفة: "كان عم يهتف مع المتظاهرين!! ".
تغرورق عيناه بالدمع، أربت على كتفه معزيا. يردد بنبرة موجعة : "كان حلموا يصير ضابط."
فجأة تقف ممرضة بوجه صارم، أمام الشاب وبنبرة حادة : "التدخين ممنوع .. هون مكان عام.. يا أفندي " مشيرة بيدها إلى ورقة قذرة ملصقة على حائط الممر، مكتوب عليها " ممنوع التدخين وفقا للمرسوم 62 لعام 2009".
يضعون الجثة في الصندوق الخلفي لسيارة السوزوكي، بوجوه محتقنة، يلتفون حول الجثة، قبل أن تنطلق سيارة "السوزوكي" بسرعة وتختفي عن مشهد التشييع "الرسمي".
ننتظر الجثة التاسعة لأحد الضباط، وسط أحاديث، إنها تحتاج إلى العديد من الموافقات، قبل إخراجها وتسليمها إلى جهة أخرى. يقول أحدهم: "إنها معاملة وإضبارة رسمية، ولا يمكن التلاعب بها، تحتاج إلى المراجعة والتدقيق، جسده كان ملك للدولة وبالتأكيد ستأخذ إجراءات الدولة حول جسده بعض الوقت والترتيبات..".
بعد انتظار طويل، تصل سيارة الإسعاف، يترجل السائق بغضب وعنف، شاتما كل إيصالات وقسائم المحروقات في العالم، وطريقة توزيعها في الجيش.. " شو ذنبي أنا، تتوقف السيارة عالطريق منشان شوية مازوت، شو مفكرين أني راح أدفع من جيبتي؟! شي حلو؟"
يُفتح الباب الخلفي من سيارة الإسعاف، ينزل ضابط، ذو وجه حزين وعينان جاحظتان، من جانب التابوت الملفوف "بالعلم الوطني". يتقدم بهدوء من وسط الساحة الصغيرة، من دون أن يلتفت إلى أحد. يسير ساهياً عن كل شيء، متهدل الأكتاف، كأنه قادم من الطرف الأخر للحياة. يقف وسط الساحة، قبل أن يخرج منه بصورة مفاجئة، ذلك الصوت الحربي والجهوري، ينادي، وكأنه يقف أمام حشود هائلة من الجنود، أمام جيش متخيل سيلقي بنفسه إلى الموت بعد قليل: "أيها الجنود ..تقدموا إلى الأمام!! لا بد أن نحقق النصر ..النصر.. النصر لنا والموت للأعداء.."
وبحركة خاطفة من يديه، حيا ظله تحية عسكرية صارمة، قبل أن يغرق في البكاء، متسائلا بنبرة ألم وغضب: النصر؟! النصر؟! وعلى مَن سننتصر ؟!.