الرئيسة \  واحة اللقاء  \  موتنا المنقول مباشرة

موتنا المنقول مباشرة

06.09.2015
حسام كنفاني



العربي الجديد
السبت 5/9/2015
لم تتوقف الصور عن المرور أمام أعيننا في الأيام القليلة الماضية. هي اختصار لما كان الجميع يحاول إشاحة النظر عنه، أو التعفف عن ذكره. هو الموت السوري بات على الهواء مباشرة، ومن كل بقاع الأرض. لم يعد القتلى السوريون موزعين ضمن نطاق جغرافي ضيق نسبياً، يتفرج العالم عليهم من بعيد، ويعبر عن الأسى والقلق، مطمئناً إلى أن مثل هذه المشاهد ستبقى بعيدة، بل بات موتهم يطرق أبواب دول الكرة الأرضيّة، ممتحناً ما تبقى من إنسانية، على الرغم من أنها فشلت في الامتحان من اليوم الأول للمحرقة السورية، يوم فضل الجميع البقاء على مقعد المتفرجين، وغض النظر عن مئات آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والنازحين والمشردين.  خلال الأسبوع الماضي، اختصرت ثلاثة مشاهد المأساة السورية بأبعادها كافة. هي مشاهد ليست جديدة على الإطلاق، بل كانت تتكرر بشكل متواصل، في السنوات الأربع الماضية، بأشكال مختلفة، غير أن قوتها، هذه المرة، كانت نابعة من وقوعها على الأرض الأوروبية، ما جعلها تحظى باهتمام إعلامي واسع. بداية كانت مع شاحنة الدجاج، أو ما اصطلح على تسميتها "شاحنة العار"، حيث تكدس عشرات السوريين الهاربين من الموت بالبراميل والسكاكين، ليلقوا حتفهم اختناقاً في مستوعب مبرد. كانت الصورة صادمة، واستدعت عشرات الأسئلة المفزعة عن هذا الموت الجماعي، وكيف كان هؤلاء يراقبون بعضهم، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. صورة تثير الاشمئزاز كلما تم التفكير فيها، وكأنها آتية من أحد أفلام الرعب الهوليودية التي كنا نتخيل أنها لا يمكن أن تصبح حقيقة، غير أن الواقع فجعنا بما هو أبشع.
أيام قليلة من البث المباشر، بتنا نعتاد على الصورة، وتخيلنا أنه لن يكون هناك أقسى من مشهد الجثث المتكدسة في تلك الشاحنة. لكن، جاء ما هو أشد إيلاماً، يوم التقطت مصورة تركية صورة الطفل السوري المسجى على وجهه، على أحد الشواطئ التركية. صورة مفجعة هزت العالم وتناقلتها وسائل الإعلام كافة، وأخرجت منا اللعنات على كل ما هو حي وميت ومشارك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في المقتلة السورية. واستدعت الصورة، أيضاً، إلى أذهاننا عشرات التساؤلات حول لحظات ما قبل الموت، وصراع العائلة مع المياه، قبل أن تشتتها وتبتلع أفرادها، وتقذف بهم إلى مناطق مختلفة. هو تشريد في الحياة والموت أمام أنظار العالم الذي اهتز ضميره ساعات، وفتح نافذة في حدوده، لاستقبال بعض الهاربين من المأساة إلى حدود كثيرة لا تزال مغلقة، وخصوصاً الحدود العربية التي كان من المفترض أن تكون الأولى في استقبال هؤلاء الباحثين عن حياة، غير أنها صدتهم، ورمت بهم إلى الموت، بأشكاله المختلفة، حرقاً أو غرقاً أو اختناقاً. أسماء مختلفة والحصيلة واحدة، ومستمرة.
لعل مشهد الرجل الذي يحتضن طفله على سكة القطار في المجر يختصر المحاولات اليائسة للسوريين للهرب إلى الحياة والتمسك فيها. صراخ ذلك الرجل موجه إلى الضمائر العربية والغربية، لعلها تصحو على مأساة هي الأفظع في التاريخ الحديث، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى سنواتها القليلة، فخلال أربع سنوات فقط سقط هذا الكم الهائل من القتلى والجرحى واللاجئين. وما يزيد فظاعتها أن القاتل ليس غريباً آتياً من خلف البحر، هو أخ وابن عّم وقريب وصديق كان يعيش بيننا ومعنا.
المشاهد الأخيرة جزء من سلسلة طويلة، بدأت من الجثث المكومة تحت أنقاض المباني المهدمة بالبراميل، وانتقلت إلى الرؤوس المقطوعة بسكاكين داعش، ولن تنتهي مع المختنقين في شاحنات العار والغرقى في قوارب الموت. مشاهد الموت السوري لن تتوقف من تلقاء نفسها، والمزيد منها لا شك قادم، فلنتحضر لصور إضافية من الموت المنقول مباشرة على الهواء، ولحالات تفجع على قتلى محرقة يصر العالمان، العربي والغربي، على الوقوف أمامها بلا حراك.