الرئيسة \  واحة اللقاء  \  موقعة ملاذكرد 1071.. عندما فُتِحَت أبواب العالم والتاريخ للأتراك

موقعة ملاذكرد 1071.. عندما فُتِحَت أبواب العالم والتاريخ للأتراك

16.03.2020
ساسة بوست


ساسة بوست
الاحد 15/3/2020
تحتلُّ الحروب والمعارك الحاسمة مفاصلَ التاريخ الإنساني، وتصنعُ مصائرَه العظمى. يعرف تلك القاعدة الراسخة كل مُطلّعٍ على التاريخ في كافة أزمِنته وأمكِنته.
في هذه الجولة سنكون على موعدٍ مع واحدة من أهم المعارك الحربية التي شهدتها ساحات الشرق الأوسط الملتهبة دائمًا بالصراع، والتي تُعتَبَر مثالًا صريحًا على صِدقيَّة القاعدة المذكورة للتو.
فقد أُعلِنَ في تركيا عن عمل فني ضخم يُجسِّد معركة ملاذكرد (مانزيكرت) التاريخية التي وقعت عام 1071، بين جيش دولة الأتراك السلاجقة بقيادة السلطان ألب أرسلان، وجيش الإمبراطورية البيزنطية الذي قاده الإمبراطور أرمانوس الرابع. انتهت المعركة التي دارت رحاها في أقصى شرق تركيا الحالية، بانتصارٍ ساحق للأتراك، فتح أمامهم أبواب الأناضول على مصراعيْها، وكذلك أبواب التاريخ.
في السطور القادمة، سنعود ألف عامٍ إلى الوراء، ونرتدٌ على آثار تلك المعركة الحاسمة قَصَصا، ونرسم كذلك مشهد الظروف التي قادت إلى تلك الموقعة الفاصلة التي غيّرت شكل الشرق الأوسط، بل والعالم بشكلٍ جذري.
الأتراك من براري آسيا إلى صناعة الملوك والخلفاء
لقرونٍ سبقت بزوغَ الإسلام، كانت القبائل ذات الأصول التركية تستعمر مساحاتٍ شاسعة من قارة آسيا، وتقتاتُ على الرعي، وكذلك على السلب والنهب. من عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ومع انهيار الدولة الفارسية تحت ضربات سيوف الفتوحات الإسلامية، انفتحت أبواب آسيا أمام المسلمين، وأصبحوا وجهًا لوجه مع الشعوب التركية.
خلال القرنيْن الأول والثاني الهجريَّيْن، هيمن المسلمون على غرب ووسط آسيا بالكامل إلى حدود الصين، وبدأت الشعوب التركية تدريجيًا تعرف طريقها إلى الإسلام.
في الربع الأول من القرن الثالث الهجري، استكثَر الخليفة العباسي المعتصم بن الرشيد من استجلاب الفرسان الأتراك ليكون عصبًا لدولته، واختطَّ لنفسه مدينة "سُرَّ من رأى" التي أصبحت سامرَّاء، لتكون عاصمةً لملكه، وأسكن عسكرَهُ الأتراك بها. كان ما فعله المعتصم مقدمةً لعصور سطوة الأتراك، وتحكًّمهم في مصائر الخلافة والأمة الإسلامية.
بعد وفاة المعتصم، تتابعَ على عرش بغداد العديدُ من الخلفاء العباسيين الضعفاء، طوال القرنيْن الثالث والرابع الهجريَّيْن، والذين أصبحوا ألعوبةً في يد قادة العسكر التركي الذي كانوا أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة، ولم يتورَّعوا عن قتل وعزل العديد من الخلفاء ممن حاولوا مجابهَة نفوذهم المتغوِّل. كذلك شاعت الفتن والانقسامات في أرجاء الدولة العباسية، واستقلّ العديد من أمراء الأمصار بما تحت أيديهم من ولايات، كما فعل الأمير التركي أحمد بن طولون في مصر وأجزاء من الشام، عندما أسَّسَ ما عُرف بالدولة الطولونية.
أدى اهتراء الدولة العباسية وسلطة خلفائها إلى تغلُّب أسرة بني بويه الفارسية الشيعية على بغداد في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، واتخاذ أمرائها لقب السلطان الذي بيده كافة الصلاحيات، بينما أصبح منصب الخليفة شرفيًا.
في القرن الخامس الهجري، عادت السطوة في بغداد إلى الأتراك، مستغلين ما آلت إليه حال دولة بني بويه آنذاك من ضعف، ومحاولة الخلافة الفاطمية الإسماعيلية الاستيلاء على بغداد فيما عُرِف تاريخيًا بـ"فتنة البساسيري".
لم يكن الأتراك الذين هيمنوا على بغداد انطلاقًا من عام 1048 ميلاديًا، من الأمراء المحليين الذين كثُر تواجدهم باعتبارهم مراكز قوى محلية في ذلك الزمن، إنما كانوا طليعة قوةٍ تركية إسلامية جديدة، هي الدولة السلجوقية – نسبة إلى جدهم الأعلى سلجوق – والتي اتخذت من المذهب السني مذهبًا لها دينًا وسياسة.
قضى السلاجقة بزعامة طغرل بك السلجوقي على ما بقي من نفوذ البويهيين الشيعة، واستحوذوا على السلطنة وصلاحياتها، ونال هذا استحسان جماهير المذهب السني في بغداد وسواها، وكذلك الخليفة العباسي السني الذي لم يكن مرتاحًا لهذا النفوذ الشيعي الذي غلب الخلافة على أمرها لأكثر من قرن من الزمن.
كانت الدولة السلجوقية آخذة في التحول تدريجيًا إلى قوةٍ إقليمية عظمى، تخضع لسيطرتها الأجزاء الشرقية من العالم الإسلامي حتى حدود الصين، وغربًا حتى العراق، ثم الشام، حيث احتدم الصراع بين السلاجقة، وبين الخلافة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية من أجل السيطرة على هذا الإقليم الحيوي.
لكن كانت هناك جبهة أخرى محتدمة طرفاها السلاجقة، والدولة البيزنطية، الخصم التقليدي للمسلمين منذ قرون، والذي كانت قوته قد تصاعدت في القرن السابق، وامتدَّت سيطرته إلى شمال الشام، ولم تنتهِ مطامعه فيها.
الطريق إلى ملاذكرد..
أصبحَ محمد بن داوُود بن ميكائيل بن سلجوق، الذي اشتهر تاريخيًا بلقب "ألب أرسلان" والذي يعني الأسد، سلطانًا على الدولة السلجوقية العظمى عام 455هـ / 1063م بعد وفاة عمه طغرل بك.
كان ألب أرسلان نشطًا في التوسع صوب الأراضي البيزنطية، فاستولى في بداية عهده على أجزاء من أقصى غربي الأناضول، من أهمها مدينة آني، والتي استباحها السلاجقة بعد حصارٍ دام لحوالي شهر.
مقطع من إنتاج فضائية "تي أر تي" التركية يظهر احتفالات سكان مانزيكرت بالذكرى السنوية للمعركة
كانت الدولة البيزنطية في العقد السابق لظهور ألب أرسلان، تمرُّ بقترةٍ من الاضطراب الداخلي، مما قلَّل كثيرًا من فعالية قوتها العسكرية، لا سيَّما الهجومية، مما أجبرها على الانكفاء أكثر للدفاع. حاول البيزنطيون إقامة خط دفاعي قوي في أقصى غرب دولتهم، عبارة عن سلسلة من الحصون والقلاع التي كانت الهدف الأول للغارات والغزوات السلجوقية للنفاذ إلى العمق البيزنطي.
عام 1068م الموافق 460هـ، حدث تغيرٌ كبير في منحنى الأحداث، عندما صعد إلى العرش البيزنطي أرمانوس الرابع، والذي كان قويًا عسكريًا، وصاحب قدراتٍ إدارية وقيادية بارزة، فأجرى إصلاحاتٍ عسكرية عاجلة، ولم يمر عام حتى كان قد أرسل حملة عسكرية كبيرة لاستعادة زمام المبادرة ضد السلاجقة، وبالفعل نجح في استعادة بعض مناطق غربي الأناضول، وكذلك في صد توغلٍ سلجوقي كبير وصل إلى أطراف مدينة قونية في قلب الأناضول عام 1069م لكن ما لبث السلاجقة أن هزموا الجيش البيزنطي، وأسروا قائده.
في ذلك الوقت، وافق ألب أرسلان على عقد هدنة مؤقتة مع البيزنطيين ليتفرغ لمواجهة الفاطميين في الشام، وحتى لا تصبح جيوشُه محصورةً بين قُطبيْ الرحى من الشمال ومن الجنوب. وهكذا تأخَّرت المواجهة الحتمية الفاصلة بين الجانبين لعامين.
موقعة ملاذكرد عام 1071
في مطلع هذا العام، نجح ألب أرسلان في ضم مدينة حلب، حاضرة شمال الشام إلى دولته. رأى أرمانوس الرابع في هذا خطرًا ماحقًا، ورأى أن التعامل الفوري معه واجب، قبل أن تترسَّخ الهيمنة السلجوقية أكثر فأكثر على تماسٍّ مباشر مع الخاصرة الجنوبية والغربية للدولة البيزنطية.
حشد أرمانوس عشرات الآلاف من الجنود البيزنطيين، مع الآلاف من الروس، والبلغار، والإفرنج، والجورجيين، والأرمن، وسواهم. وتوجَّه لملاقاة جيش ألب أرسلان على الفور قبل أن يجد الأخير الوقت اللازم لاستكمال حشوده وجمع جيوشه من كافة أرجاء الدولة السلجوقية المترامية. وأرسل رسله إلى حلب وبغداد وسواها يتوعَّد بإلحاق هزيمةٍ ساحقة بالسلاجقة، وأنه لن يوافق على أي طلبٍ للهدنة إلا في مدينة الري في قلب فارس (كانت عاصمة دولة السلاجقة آنذاك، كناية عن انتصاره الساحق عليهم). وتبالغ المصادر الإسلامية في تقدير عديد جيش أرمانوس، فتصل به إلى حوالي 200 ألف جندي، وهو رقم هائل الضخامة يصعب على أرمانوس حشده في ذلك الوقت القصير.
كان تحت قيادة ألب أرسلان في شمال الشام وجواره حوالي 20 ألفًا من الجنود والفرسان. ورغم الفارق العددي لصالح خصمه، فإن رأى أن الوقت ليس لصالحه من أجل الانسحاب إلى الداخل لحشد الإمدادات، إذ سيتيح هذا للجيش البيزنطي أن يتوغل كثيرًا داخل بلاده، وينقل جحيم الحرب إلى أعماقها.
إِنَّنِي أُقَاتِلُ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، فَإِنْ سَلِمْتُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فَإِنَّ ابْنِي مَلِكْشَاهْ وَلِيُّ عَهْدِي *ألب أرسلان في وصيته لمعاونيه قبل المواجهة مع البيزنطيين في مانزيكرت
لم يُعطِ أرمانوس الفرصة لجيوشه لالتقاط الأنفاس، واندفع غربًا إلى حدود الأناضول، قرب بحيرة فان، من أجل الاستيلاء على قلعتيْ مانزيكرت (ملاذكرد) وخِلاط قبل وصول ألب أرسلان لمواجهته، لكي يعطيه هذا موقعًا دفاعيًا جيدًا في حالة انقلبت الأوضاع.
هنا اتخذ أرمانوس قرارًا أظهرت الأحداث التالية أنه لم يكن صائبًا، حيث قسَّم قواته إلى عدة جيوش، وأرسل كل منها صوب بقعةٍ معينة، مما سمح للجيش السلجوقي الذي يتحرك في كتلةٍ واحدة أن ينفرد ببعضها ويوجه لها ضربة قوية.
دارت المعركة الأولى قرب خلاط بين جيش ألب أرسلان، ومقدمة الجيش البيزنطي، وجلها من الروس، ولم تستمر المعركة طويلًا، إذ انتصر السلاجقة انتصارًا كبيرًا، وفرّ الكثير من الروس. حاول ألب أرسلان استغلال هذا النصر الأوَّلي في إقناع أرمانوس الرابع بالعودة للهدنة، أو شراء الوقت بالمفاوضات ريثما تتكامل حشوده، لكن رفض أرمانوس بشدة، واعتبر المواجهة الأولى غير مؤثرة، إذ ما تزال القوة الضاربة لجيشه جاهزة للمواجهة.
أعلن ألب أرسلان في قواته أنه لا يُجبر أحدًا على الاشتراك في الموقعة الفاصلة، وأن من يريد الانسحاب فلينسحب، ثم ارتدى الزي الأبيض، كناية عن أنه قد لبسَ كفنَهُ، دلالةً على الاستماتة في القتال. فبثَّ هذا الحماسة في جنوده للمواجهة.
في ذلك الوقت، تقدَّم أرمانوس بالقوة الرئيسة من جيشه، واحتلّ حصن ملاذكرد، ثم أرسل طليعة أخرى جُلُّها من الأرمن، لكن نجح ألب أرسلان في إيقاع الهزيمة بها. عندئٍذ تقدم رومانوس بجيشه الرئيس، فانهمرت عليه آلاف الأسهم من رماة الجيش السلجوقي المهرة، ما ألحق خسائر مؤثرة بالجيش المتقدم. كذلك انسحب من جيش أرمانوس المئات من الفرسان الأتراك المرتزقة، بعد أن هالهم المواجهة الفعلية مع بني جنسهم.
"إِنَّكَ تُقَاتِلُ عَنْ دِينٍ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ بِاسْمِكَ هَذَا الْفَتْحَ، فَالْقَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، بَعْدَ الزَّوَالِ، فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ بِالنَّصْرِ، وَالدُّعَاءُ مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ". *الفقيه أبو نصر البخاري الحنفي مشجِّعًا ألب أرسلان على مواجهة الروم
نظَّم ألب أرسلان جيشه على هيئة هلال أو نصف دائرة، وأوعز إلى القلب بالانسحاب للداخل تدريجيًا مع اندفاع طلائع البيزنطيين، وذلك ليقودهم تدريجيًا إلى حصار مطبق من ثلاث اتجاهات. ورغم نجاح المقدمة البيزنطية المتوغّلة في احتلال معسكر ألب أرسلان، فلم يكن هذا إلا مكسبًا رمزيًا، إذ استمرت أجناب الجيش السلجوقي في الضغط على البيزنطيين، بينما أخذ الفرسان الأتراك في القيام بمئات الهجمات المضادة بأسلوب الكر والفر لاستنزاف البيزنطيين، دون الدخول في مواجهة رئيسة فاصلة.
لم يستطِع أرمانوس التحكم في جيشه الضخم غير المتجانس بفعالية، مما تسبَّب في اضطراب الميمنة بحلول الليل، وكذلك انسحاب المؤخرة التي كانت مهمتها تغطية الانسحاب التكتيكي مساءً، حتى تهدأ الاشتباكات انتظارًا لحلول الصباح. منح هذا فرصة ذهبية للأتراك، فاندفعوا بزعامة ألب رسلان في هجومٍ مضادٍ شرس، زعزع المسيرة البيزنطية التي كانت أكثر تماسُكًا، ثم حوصِر أرمانوس في القلب، حتى سقط أسيرًا وهو ملطخٌ بالدماء والطين، بينما قُتل وأسر الآلاف من فرسانه وجنوده.
"سيكون عقابي لك أشد من القتل، سأعفو عنك". *ألب أرسلان مخاطبًا الإمبراطور البيزنطي الأسير أرمانوس
أظهر ألب أرسلان توقيرًا لافتًا لأسيره الإمبراطوري، وكان يشاركه في مائدة الطعام. لكن على مائدة المفاوضات كان للشدة كلمة الفصل، فأجبره على التنازل عن بعض الممتلكات البيزنطية الهامة، مثل مدينتيْ أنطاكية والرها وكذلك حصن ملاذكرد، ثم أطلق سراحه على أن يدفع فدية كبيرة، وكذلك طلب زواج ابنَه، من ابنة أرمانوس، والذي لم يجدْ مفرًا من الموافقة على كل هذا.
لكن ما كاد أرمانوس يصل إلى القسطنطينية التي كانت تفور غضبًا من أنباء الهزيمة، وما أعقبها من تنازلات، حتى كان انقلابًا قد وقع ضدَّه، فعُزل، وألقي القبض عليه، وسُجن، بعد ثلاثة حروب داخلية كبيرة ضد خصومه، وسُملَت عيناه، ثم نفي إلى إحدى الجزر.
ويتحدث بعض المؤرخين المعاصرين، عن أن الأثر النفسي والمعنوي للمعركة، كان أشد من الأثر الواقعي، فالكثير من القوات البيزنطية المشاركة في المعركة، قد نجح في الفرار، فلم تكن المعركة استئصالًا للقوة الضاربة العسكرية للبيزنطيين، لكنها أدخلت الإمبراطورية في دوامة من الاضطرابات الداخلية، وكذلك جرَّأت القبائل التركية، والحكام المسلمين المحليين المجاورين لبيزنطة على التجرّؤ على الإمبراطورية ذات الظل القديم.
ما بعد ملاذكرد.. انقلاباتٌ كبرى
كانت هزيمة ملاذكرد الساحقة هي بداية العد التنازلي للسقوط النهائي للإمبراطورية البيزنطية، لاسيّما وقد فتحت الأبواب على مصراعيْها أمام اجتياح السلاجقة، وغيرهم من القبائل التركية، لعمق الأراضي البيزنطية في هضبة الأناضول، حتى اقتضموا معظمها في العقود القليلة التالية لملاذكرد.
لكن تداعي الإمبراطورية البيزنطية سيحدث بشكلٍ أبطأ، ولأكثر من ثلاثة قرون ونصف، نتيجة ما سيعتري دولة السلاجقة من ضعف وتمزق بعد عصر السلطان ملِكشاه بن ألب أرسلان، وكذلك لانشغال الشرق بحادثٍ جلَل، ستستمرُّ تداعياته لقرنيْن، وكان لموقعة ملاذكرد دورٌ كبير في إشعال فتيله. كان هذا الحدث هو الحروب الصليبية.
رغم الخلاف المذهبي الجذري بين كنيسة روما الكاثوليكية، وكنيسة القسطنطينية الأرثوذوكسية، وكذلك الحروب والصراعات المستمرة بين البيزنطيين والقوى الأوروبية المنافسة لها في شرق البحر المتوسط، وجنوبي شرق أوروبا، فإن القوى الأوروبية الكاثوليكية رأت في هزيمة الدولة البيزنطية الساحقة في ملاذكرد، وما تلاها من تمدُّدٍ سلجوقي إسلامي على حساب البيزنطيين، خطرًا وجوديًا عليهم، حيث كانت الدولة البيزنطية لقرون بمثابة الدار العازل بين المد الإسلامي، والبوابة الشرقية لأوروبا. فكان هذا من أهم الدوافع السياسية لاندلاع الحروب الصليبية ضد الشرق الإسلامي.
لكن بحلول أواخر القرن الثالث عشر الميلادي ومطلع الرابع عشر، ومع انتهاء الوجود الصليبي بالشرق والذي دام لقرنيْن، وظهور قوة إسلامية جديدة في قلب الأناضول هي العثمانيون، أصبحت الدولة البيزنطية في موقفٍ شديد الصعوبة، وخلال أقل من قرنٍ ونصف من يزوغ القوة العثمانية، نجحت الجيوش العثمانية في فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 1453م، وانتهى أخيرًا العد التنازلي الذي بدأته ملاذكرد قبل 382 عامًا ميلاديًا.