الرئيسة \  تقارير  \  ميدل إيست آي  : كطبيبة أثناء مذبحة صبرا وشاتيلا شاهدت الرعب، والتحدي‏

ميدل إيست آي  : كطبيبة أثناء مذبحة صبرا وشاتيلا شاهدت الرعب، والتحدي‏

19.09.2022
سوي تشاي آنغ


‏سوي تشاي آنغ‏ – (ميدل إيست آي) 14/9/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الاحد 18/9/2022
بعد ثلاثة أسابيع من إخلاء مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، في 15 أيلول (سبتمبر) 1982، تم خرق وقف إطلاق النار فجأة عندما اجتاحت مئات الدبابات الإسرائيلية بيروت. وأغلقت بعض هذه الدبابات جميع طرق الهروب من مخيمي صبرا شاتيلا، وأرسل أعضاء ميليشيا الكتائب اللبنانية إلى ‏‏مخيمي صبرا وشاتيلا‏‏ وذبحوا ما يصل إلى 3.500 فلسطيني ومدني لبناني، بينما كان الجيش الإسرائيلي يقف متفرجا. ولم يكن حفظة السلام متعددو الجنسيات موجودون في أي مكان… وقد صنعت هجمات هذه الميليشيات اللبنانية المروعة التي مكنتها إسرائيل على المخيمين في ذلك العام إرثا من الصدمة. لكن هناك أيضا سببا للأمل‏.
* * *
قبل أربعين عامًا، عندما أثارت غضبي اللقطات التلفزيونية للدمار الذي لحق ‏‏بلبنان‏‏ بسبب ‏‏الغزو الإسرائيلي لذلك البلد في العام 1982‏‏، غادرت منزلي في لندن للتطوع بتقديم مهاراتي الجراحية للجرحى هناك. وكان الغزو قد أسفر عن مقتل آلاف المدنيين، وتدمير المنازل، وسبل العيش، والمستشفيات، والمكتبات، والمصانع والمدارس والمكاتب. ‏
وصلت في ذلك الصيف إلى بيروت طبيبة جرّاحة مسيحية، تؤيد إسرائيل وتعتقد بأن ‏‏منظمة التحرير‏‏ الفلسطينية إرهابية. لكن وجهات نظري كانت على وشك التغيير.‏
‏مع تدمير العديد من المستشفيات، عملت كمسعفة متطوعة في مستشفى ميداني في مرآب للسيارات تحت الأرض. وقد تعاملنا مع جراح الحرب المدمرة التي كان الكثير منها قد أُلحق بالأطفال. كات بيروت قد قُصفت وأصبحت تحت الحصار. وحُرمت المدينة من الماء والكهرباء والغذاء والدواء. وأُجبرت آلاف الأسر التي هُدمت منازلها على العيش في الشوارع وسط المدينة –عطشى، جائعة، معدمة ومصدومة.
‏توقف القصف العدواني الذي لا هوادة فيه عندما وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على ‏‏الخروج من لبنان مقابل السلام‏‏. وصدرت الأوامر للآلاف من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية بمغادرة لبنان، متعهدين بعدم العودة إليه أبدا، في حين تلقوا وعودا بتوفير الحماية لعائلاتهم التي تركوها خلفهم بموجب خطة توسطت فيها ‏‏الولايات المتحدة‏‏.‏
في أعقاب وقف إطلاق النار، احتاجت ‏‏جمعية الهلال الأحمر‏‏ الفلسطيني إلى فريق جراحي مكون من ستة أعضاء لدعم إعادة فتح “مستشفى غزة” المكون من 11 طابقًا في “شارع صبرا” -المستشفى الوحيد التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الذي كان ما يزال قائمًا في ذلك الوقت، بعد أن سوت القذائف البقية بالأرض. وانحشرت مجموعة منا في سيارة تابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ومع دوي صفارة الإسعاف انطلقنا مسرعين على طول الطرق الخالية من المركبات.‏
عند وصولنا، رأينا أن الطابقين العلويين من المستشفى تعرضا لقصف شديد، لكن الطابق التاسع كان ما يزال سليما إلى حد كبير، على الرغم من أن زجاج النوافذ كان محطماً بفعل الانفجارات. وأصبح هذا مكان إقامتنا. لم تكن هناك كهرباء أو مياه جارية بعد، لكن القنابل كانت قد توقفت عن السقوط على الأقل.‏
‏إزالة الأنقاض‏
‏كان العمل في المستشفى يجري على قدم وساق. قام موظفو جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بإزالة الأنقاض، وعملوا في إصلاح وتنظيف ردهات المستشفى وعنابره، وغرف العمليات، والصيدلية، والمقصف والمشرحة. وتم نقل المرضى الجرحى من مختلف المستشفيات الميدانية إلينا لتقديم المزيد من الرعاية لهم.‏
من الطوابق العليا لمستشفى غزة، كان شارع صبرا مرئيًا بطوله، وقد شاهدت عائلات نازحة من النساء والرجال المسنين والأطفال –بعد أن تم إجلاء الرجال الأصحاء من لبنان- وهم يعودون إلى منازلهم ويسيرون على طول ذلك الشارع وقد حملوا أمتعتهم الضئيلة على ظهورهم وفي عرباتهم وعلى حميرهم. كانوا مصممين على التقاط قطع حيواتهم المحطمة، وإزالة الأنقاض وإعادة بناء منازلهم بعد أن منحهم السلام الموعود الذي رعته الولايات المتحدة الأمل. وقد استمالتني شجاعتهم وإرادة البقاء التي انطووا عليها وكسبوا قلبي.‏
وقد كونت صداقات مع العديد من سكان هذه المنطقة، وأثارت حنقي معرفتي عن تاريخ ‏‏فلسطين‏‏ من أفواههم. لقد أجبرت عائلاتهم على الخروج من فلسطين تحت تهديد السلاح في العام 1948 من أجل تسهيل إنشاء دولة إسرائيل.‏
وفي ذلك العام، طردُ حوالي نصف السكان الأصليين في البلاد، أو ‏‏750.000 شخص‏‏، ليصبحوا لاجئين في ‏‏الأردن‏‏ ‏وسورية‏ ولبنان المجاورة. وتم ذبح حوالي 13.000 فلسطيني وتدمير ‏‏530 قرية‏‏ في هذا التطهير العرقي الهائل المعروف باسم “‏‏النكبة”‏‏.‏
‏باختصار، تم محو فلسطين من خريطة العالم. وفي العام 1948، استقبل لبنان حوالي 110.000 من اللاجئين الفلسطينيين ‏‏الفارين الذين استقروا‏‏ في مخيمات اللاجئين. وبحلول العام 1982، كان عدد هؤلاء اللاجئين قد ارتفع إلى ما يقرب من 400.000 نسمة.‏
وعلى الرغم من المظالم الكثيرة المرتكبة ضدهم، كان الفلسطينيون الذين التقيت بهم طيبين وكرماء. وقد عانوا كثيرًا، لكنهم احتفظوا بكل هذا القدر الإنسانية. وقد غمرني حسن ضيافتهم في خضم فقرهم. ولم تكن قصتهم مكتوبة في أي كتاب تاريخي، لكنَّ كل طفل فلسطيني كان يعرف اسم قرية أجداده التي تم هدم الكثير منها مسبقاً.‏
‏عرَّفتني النساء على تطريزهن الفلسطيني الجميل إلى حد مذهل، بزخارف تمثل قراهن المدمرة مطرزة على قماش أسود بخيوط حريرية ملونة مرسومة ببراعة. وكانت كل غرزة شهادة على تاريخهن وثقافتهن وقدرتهن الهائلة على الصمود.
الاغتصاب والتعذيب‏
‏بعد ثلاثة أسابيع من إخلاء مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، في 15 أيلول (سبتمبر) 1982، تم خرق وقف إطلاق النار فجأة عندما اجتاحت مئات الدبابات الإسرائيلية بيروت. وأغلقت بعض هذه الدبابات جميع طرق الهروب من صبرا شاتيلا، وأُرسل أعضاء ميليشيا الكتائب اللبنانية إلى ‏‏مخيمي صبرا وشاتيلا‏‏ وذبحوا ما يصل إلى 3.500 فلسطيني ومدني لبناني، بينما كان الجيش الإسرائيلي يقف متفرجًا. ولم يكن حفظة السلام متعددو الجنسيات موجودين في أي مكان.‏
لقد تعرض سكان المخيمين للخيانة، وتركوا من دون أحد ليدافع عنهم. ‏‏وتعرضت العديد من النساء في المخيمين للاغتصاب والتعذيب‏‏ قبل أن يُقتلن خلال المذبحة التي استمرت ثلاثة أيام.‏
‏في المستشفى، عملنا من دون توقف، وكافحنا لإنقاذ مئات الأشخاص الذين أُطلق عليهم الرصاص من مسافة قريبة. ومات بعضهم عند وصولهم إلينا مباشرة، ونُقلوا إلى المشرحة على الفور. وقد نفد الدم والدواء والغذاء من المستشفى. وفر الآلاف من الأشخاص الخائفين إلى مستشفانا طلبا للحماية من المسلحين الذين اقتحموا منازلهم.‏
في خضم المذبحة، مساء يوم 17 أيلول (سبتمبر)، أرسل مدير مستشفانا موظفي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بعيدًا عن المكان عندما أصبح من الواضح أن المسلحين سيستهدفونهم. لكن فريقنا المكون من 22 عضوًا من المتطوعين الطبيين الدوليين اختار البقاء. وطُلب من أي شخص يختبئ في مستشفانا المغادرة، حيث كان من المحتمل أيضًا أن يكونوا هدفاً للقتل. لكن المصابين بجروح خطيرة الذين كانوا على أجهزة دعم الحياة لم يتمكنوا من الخروج.‏
في وقت مبكر من فجر اليوم التالي، أُجبرنا على الخروج من المستشفى تحت تهديد السلاح، تاركين وراءنا 30 مريضا مصابين بجروح خطيرة -الكثير منهم من الأطفال. وقد أصرت ممرضة سويدية وطالب طب ألماني على البقاء في الخلف معهم لرعايتهم، وأعتقد أن شجاعتهما المتفانية هي التي أنقذت حياة هؤلاء المرضى.‏
كنا نسير على طول شارع صبرا. وكانت الميليشيات قد اعتقلت المئات من سكان المخيم العزل -من النساء والرجال المسنين والأطفال. رأيت الرعب في أعينهم. وأعطتني أم شابة يائسة طفلها، لكنّها، تحت تهديد السلاح، أجبرت على إعادته. وقد قتل كلاهما، مع الآخرين الذين اعتقلوا، بعد أن تم اقتيادنا بعيدًا.
غضب قصير العُمر
‏عندما نُشرت صور أكوام الجثث في أزقة المخيمين بعد المذبحة، تصاعدت التعبيرات عن الغضب والإدانة في جميع أنحاء العالم. لكن ذلك الاهتمام الدولي لم يدم طويلا. وسرعان ما تركت عائلات الضحايا والناجين وحدهم ليواصلوا حياتهم ويستعيدون ذكريات المذبحة، وأهوال الغزو، والتفكيك المؤلم لأسرهم من خلال عمليات الترحيل القسري لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية.
مع تحطم آمالهم مرة أخرى، وقصف منازلهم وتجريفها، وترحيل أحبائهم وذبحهم، حاول الناجون مرة أخرى إعادة بناء حيواتهم الممزقة، والعناية بأطفالهم بينما يقومون بدفن الموتى في ‏‏مقابر جماعية‏‏. وقد مضى العالم قدمًا، وأسلمهم للنسيان –وأصبحوا موتى في ضمير المجتمع الدولي. ‏
‏ومنذ ذلك الحين، تعاظمت دوامة اليأس والقنوط بالنسبة للفلسطينيين، والتي تفاقمت فقط بسبب الفقر والشعور بالخذلان وقد تم التخلي عنهم. ويبدو أن محنتهم لم تعد تثير اهتمام عناوين وسائل الإعلام الرئيسية بعد الآن.‏
لقد عاشت أجيال من الفلسطينيين وماتت في مخيمات اللاجئين المنتشرة في الأردن ولبنان وسورية وخارجها. وقد ولد الأطفال لاجئين، وكبروا لاجئين، وماتوا ‏‏لاجئين‏‏.‏
‏لكنّ أملي بالشعب الفلسطيني زُرع في أعقاب المذبحة التي وقعت قبل 40 عاما مباشرة. عدت إلى صبرا وشاتيلا مباشرة بعد إعادة فتح المنطقة. كانت هناك المقابر الجماعية، والجثث المتحللة، والمنازل المهدمة، والأقارب المكلومون. وكان اليأس، والخراب وصرخات الألم وسيل الدموع. وكنت محطمة القلب.‏
ومع ذلك، لم تكن الأمور قد انتهت. بين الأطفال الذين تمكنوا من النجاة، والكثير منهم مشردون ويتامى، كانت روح التحدي حية إلى حد كبير. وبينما كانوا يصطفون لكي ألتقط صورهم، رسموا بأيديهم علامة النصر، وهم يقولون: “نحن لسنا خائفين. دعوا الإسرائيليين يأتون”.‏
‏كان الهواء مشبعاً برائحة اللحم البشري المتحلل. في الأمام اصطفت جثث تنتظر التعرُّف عليها. ووراءهم كانت منازلهم المدمرة. ولكن، بين الموت والدمار كان الأطفال الفلسطينيون المعوزون يراهنون بتحد على حقهم في أن يكونوا جزءًا من الإنسانية. ‏
*الدكتورة سوي تشاي آنغ Swee Chai Ang: نشأت ودرست في سنغافورة. حصلت على شهادة الطب، وفي العام 1976 درجة الماجستير في الطب المهني من جامعة سنغافورة. وهي مؤلفة مشاركة لكتاب “جراحة الحرب”، وكتاب “الرعاية الفورية لجرحى الحرب”، بالإضافة إلى منشورات أخرى في مجال جراحة العظام، كما كتبت “من بيروت إلى القدس”، الذي وثقت فيه تجربتها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وغزة. و”طبيبة جراحة مع الفلسطينيين”، الذي أعيد نشره بعد تحديثه في العام 2019. كانت طبيبة جراحة للعظام في مستشفى غزة في صبرا وشاتيلا خلال مذبحة المخيمين في العام 1982. وهي مؤسِّسة وراعية “جمعية المعونة الطبية الخيرية البريطانية للفلسطينيين”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: As a medic during the Sabra and Shatila massacre, I saw horror and defiance