الرئيسة \  تقارير  \  مَن قتل “قطار الشرق السريع”؟

مَن قتل “قطار الشرق السريع”؟

08.01.2022
الإيكونوميست


تقرير خاص – (الإيكونوميست) 18/12/2021
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الخميس 6/1/2022       
ذات يوم، ربطت خطوط السكك الحديدية أنحاء الشرق الأوسط معاً. والآن أصبحت المسارات التي ربطت القارات في الماضي حطاماً… في سنوات شفق الإمبراطورية العثمانية، ربط السلاطين العثمانيون ثلاثة موانئ شامية مزدهرة -طرابلس، وبيروت، وحيفا- بمدن طريق الحرير القديمة، مثل دمشق وحمص وحلب. وعشية الحرب العالمية الأولى، تحالف السلاطين مع القيصر الألماني لبناء خط سكة حديدية من برلين إلى بغداد، متجاوزًا نقطة الاختناق البريطانية، قناة السويس. وساعد المهندسون الألمان على جَسْر جبال طوروس في الأسابيع الأخيرة من الحرب -بعد أن فات الأوان على تعزيز الجبهات ضد توغل البريطانيين شمالًا.
* *                               
المدينة المنورة؛ جدة؛ واللد
تركت زوجها يحفر بحثًا عن الأواني الفخارية في صحراء شمال سورية، وسلمت جواز سفرها للرجل التركي في الزي الرسمي في نقطة نصيبين الحدودية، ومع انطلاق صافرة البخار، صعدت على متن القطار السريع المتجه إلى حلب. وعند وصولها، سجلت الدخول في “البارون”، الفندق الوحيد من الدرجة الأولى في المدينة، وفي الغرفة 203 بدأت كتابة ما قد تكون رواية الغموض الأشهر في كل الأزمان.
كانت الساعة الخامسة من صباح يوم شتائي في سورية. وإلى جانب الرصيف في حلب، وقف القطار الموصوف بطريقة فخورة في دليل السكك الحديدية باسم ’قطار طوروس السريع‘. كان يتألف من عربة مطبخ وطعام، وعربة نوم، وعربتين طويلتين محليتين”. هكذا بدأت أجاثا كريستي روايتها، “جريمة في قطار الشرق السريع”. وبينما تشرُع في رحلة العودة إلى الوطن بعد تجوالها في أنحاء الشرق الأوسط، تستحضر كريستي عالماً ضائعاً من الكبائن المتصلة ببعضها بعضا، والكومساريّة ببزاتهم المميزة، ومناديل الجيب القُماشية المطرزة، والركاب في ملابس العشاء.
وكان الضحية محتالاً أميركياً تلقى اثنتي عشرة طعنة في كابينة نومه. ولكن، على الرغم من أن الحكاية جعلت من كريستي الروائية الأكثر مبيعًا في العالم، فإنها كانت مجرد حاشية هامشية فقط مقارنة بالجريمة التي كانت تتكشف من حولها -تمزيق أوصال شبكة السكك الحديدية الهائلة التي ربطت كل أجزاء الشرق الأوسط معًا.
جاء ركاب قطار الساعة الخامسة المتجه إلى إسطنبول من بغداد وكركوك والموصل. وربما جاؤوا أيضًا من الخرطوم، والإسكندرية، والقدس ودمشق والبصرة. وتُظهر الخرائط من ذلك الوقت منطقة تتقاطع فيها مسارات القطارات. وبالنسبة لـ”رجل أوروبا المريض” المفترض، كانت الإمبراطورية العثمانية في العقود الأخيرة نشطة بشكل ملحوظ. في العام 1888، شرع السلطان عبد الحميد الثاني في تنفيذ المشروع الهندسي الأكثر طموحًا خلال ستة قرون من الحكم العثماني: ربط أركان إمبراطوريته الأربعة بالسكك الحديدية.
وبدأ عبد الحميد بالأماكن الإسلامية المقدسة. بمساعدة رجال الأعمال المسيحيين واليهود، فتح خطاً من البحر الأبيض المتوسط عبر تلال الحجر الجيري في جنوب فلسطين إلى القدس. وأودع الخط حمولته الأولى من الحجاج مقابل المسجد الأقصى في العام 1892. وبعد ثماني سنوات، أمر السلطان بمد مسار أطول بـ15 مرة، والذي يربط دمشق، نقطة البداية التقليدية للحج، بالمدينة المنورة، حيث يوجد ضريح النبي محمد. واكتمل بناء الخط في العام 1908، ليحوِّل مسار الحج من رحلة محفوفة بالمخاطر على ظهور الجِمال لمدة 40 يومًا عبر صحراء الجزيرة العربية إلى رحلة مريحة مدتها ثلاثة أيام. وكانت محطة دمشق، التي أعيدت تسميتها لتصبح “بوابة الله”، تحفة معمارية من الطراز الباروكي الإسلامي.
من المغرب إلى العراق، ما من قطار واحد يعبر الحدود
وصاحبت هذا البناء مآثر أخرى. في سنوات شفق الإمبراطورية، ربط السلاطين العثمانيون ثلاثة موانئ شامية مزدهرة -طرابلس، وبيروت، وحيفا- بمدن طريق الحرير القديمة، مثل دمشق وحمص وحلب. وعشية الحرب العالمية الأولى، تحالف السلاطين مع القيصر الألماني لبناء خط سكة حديدية من برلين إلى بغداد، متجاوزًا نقطة الاختناق البريطانية، قناة السويس. وساعد المهندسون الألمان على جَسْر جبال طوروس في الأسابيع الأخيرة من الحرب -بعد أن فات الأوان على تعزيز الجبهات ضد توغل البريطانيين شمالًا.
بعد ذلك، نفذت الإمبراطوريات الأوروبية التي اجتاحت الشرق الأوسط الكثير مما تركه العثمانيون على لوحة الرسم. وبحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، كان بإمكان الركاب السفر من القناة الإنجليزية إلى القاهرة بتغيير ثلاثة قطارات فحسب. وكان الجزء الأخير من الرحلة يكلف في عربات الدرجة الثالثة ما يعادل أجرة يومي عمل للعامل المتوسط. وكان القطار يغادر حيفا يوميًا عند الساعة الخامسة والنصف صباحاً، ويتجه جنوبًا إلى ميناء غزة على البحر المتوسط بحلول وقت الغداء، ويتحول غربًا إلى سيناء ويصل العاصمة المصرية بحلول الساعة السابعة والنصف مساء.
ومن هناك، يمكن للمسافرين مواصلة الطريق على متن إحدى أولى العربات المكيفة على طول نهر النيل إلى وادي الملوك في الأقصر ثم إلى السودان. “أسرع طريق مباشر إلى دمشق، بيروت، بعلبك وحلب”، يقول كتيِّب لشركة سكة حديد فلسطين يعلن عن المواصلات من حيفا. ويقول سامي أبو شحادة، المؤرخ الفلسطيني وعضو الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي: “من محطة يافا كان يمكنك التنقل عبر كامل أنحاء العالم العربي”.
المشتبه بهم
كان الشرق الأوسط مكاناً لمزيج عالمي من اللغات والأعراق والطوائف منذ أن بدأت الحضارة. وقد جمعتها خطوط السكك الحديدية معًا مثل فاكهة منوعة في وعاء. وكان المشتبه بهم الـ13 في رواية كريستي “من جميع الطبقات والجنسيات”. في هذه القطارات، كان الحجاج المسلمون المتجهون من طولكرم يتشاركون العربات مع عمال يهود ذاهبين في إجازات مدفوعة بالكامل من حيفا إلى دمشق نظمتها نقابة العمال الصهيونية، الهستدروت. وتنافست هيئة السياحة اللبنانية في طباعة الإعلانات لمنتجعات التزلج بالعبرية. وعندما كان طفلاً، يتذكر محمود الزهار، أحد قادة حركة حماس الإسلامية الفلسطينية، الركوب في عربات النوم في القطارات من مسقط رأس والدته في الإسكندرية إلى غزة. ولم يكن الموظفون والعاملون أقل تنوعًا. فقد عمل يهود وعرب تحت القيادة البريطانية في قطار فلسطين، إلى جانب عاملين من 30 جنسية أخرى. وكان الكُمسري على قطار كريستي فرنسياً.
الآن، بعد سبعين عامًا، أصبحت مسارات القطارات التي ضمت القارات معاً ترقد في الحطام. من المغرب إلى العراق ما من قطار واحد يعبر الحدود. وتتناثر العربات الصدئة وهياكل المحركات على الرمال. وتنبت أشجار السرو بين خطوط السكة في لبنان. وتم صهر القضبان وتحويلها إلى طلقات رصاص، مثلما كانت المحاريث تُسكّ في سيوف. واستُخدمت عربات النوم في تدعيم جدران الخنادق، وأصبحت المحطات وساحات الإصلاح ثكنات وسجونا. وكما هو الحال في جريمة القتل على متن “قطار الشرق السريع”، سقطت شبكة السكك الحديدية ضحية للعديد من الطعنات. ويشكل تعقب المسؤولية عن الذنب إحدى أعظم قصص الغموض التي لا يُعرف فيها الجاني في المنطقة.
كان المشتبه به الأول ضيفًا آخر في “فندق البارون”، في الغرفة المجاورة لكريستي. خلال معظم فترة الحرب العالمية الأولى، تآمر توماس إدوارد لورانس، ضابط المخابرات البريطاني، وراء خطوط العدو لتمزيق سكة حديد الحجاز بغية إضعاف القوات العثمانية. وقد أنشأ فرقة بدوية، وعبأها بالحماسة الجهادية، وفجر 79 جسراً وأخرج عشرات القطارات عن مسارها. وفي الوطن كان “لورنس العرب” بطلاً. كانت تكتيكاته من النوع الذي يستخدمه إرهابي. كان الجرحى، والكثير منهم من المدنيين، يُترَكون ليموتوا في الخوانق والأودية. وكتب لورانس في رسالة إلى الوطن: “إن هذا القتل وقتل الأتراك أمر مروع”.
إعلان عن رحلات بالقطار السريع من لندن إلى بغداد على خطوط شركتي سيمبلون وطوروس – (المصدر)
ومع ذلك، كان للبريطانيين ما يعتذرون به. فقد بنوا السكك الحديدية في الشرق الأوسط قبل وبعد العثمانيين. وبدأ روبرت ستيفنسون، الرائد الإنجليزي في مجال القطار البخاري، في وضع خطوط السكك الحديدية في مصر في خمسينيات القرن التاسع عشر. وبينما تقدمت القوات البريطانية، كانوا يقومون بتمديد الخطوط.
ويكشف التحقيق في قصة “لورنس” عن خيوط أخرى. لقد كره العديد من مجنديه البدو خط الحجاز لأنه كسر احتكارهم لنقل الحجاج والحبوب. وكانوا يسمونه “جحش السلطان”. كما أنه جلب العادات الأجنبية، أيضًا، التي أزعجت الرموز التقليدية وقواعد السلوك العريقة. وتحت حكم سلالة آل سعود المتشددة، مزق البدو مسارات القطارات من حدودهم الجديدة إلى المدينة المنورة. وتبعه الخط في جنوب الأردن اليوم، ولم يتبق من المسار الذي كان طوله 800 كيلومتر تقريبًا سوى جسر عار يمر عبر جبال بلون الصدأ. وفي بعض الأماكن، تنتظر المحطات والحصون العثمانية التي تعصف فيها الرياح قطارًا مر بها آخر مرة منذ قرن من الزمان.
ومع ذلك، فإن للسعوديين ما يعتذرون به أيضاً. لقد تم التخلص من أولئك البدو بالمئات. ويشير السعوديون إلى مستفيدين آخرين من هجمات البدو على خطوط القطار: لطالما سعت بريطانيا وفرنسا إلى إيجاد طرق لوقف تدفق رعاياهما المسلمين إلى مكة والحد من تعرضهم للإسلاميين المناهضين للاستعمار.
كما يمكن العثور على الصهاينة في مسرح الجريمة أيضاً. فقد نظر الصهاينة الأكثر تشدداً إلى السكك الحديدية البريطانية على أنها شبكة عنكبوت حديدية تخترق أراضيهم، وقتلوا العشرات من الناس الذين يستخدمونها في عشرات الهجمات. وفي “ليلة القطارات”، في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1945، قامت الميليشيات الصهيونية الرئيسية الثلاثة بتفجير خطوط القطارات في أكثر من 150 نقطة، وزرعت عبوات ناسفة في محطات مفترق القدس واللد. وبعد سبعة أشهر، دمرت في “ليلة الجسور” عشرة جسور تربط سكك حديد فلسطين وطرقها بالعالم العربي. وهناك موقع على شبكة الإنترنت لتمجيد مقاتلي منظمة “الإرغون”، الميليشيا التي كان يرأسها رئيس الوزراء المستقبلي مناحيم بيغن، ما يزال يشيد بالإنجاز: “لقد حققت العملية هدفها، وتم قطع البلاد عن كل جيرانها”.
واستمر التفكيك مع استقلال إسرائيل في العام 1948. فجرت إسرائيل الجسر في “روش هنيكراه” لقطع بيروت وسد النفق الذي كان يمر عبر تلال جنوب لبنان، قاطعة بذلك الخط الذي يربط أوروبا بإفريقيا. كما قامت الحكومة الإسرائيلية بحل “شركة سكة حديد فلسطين” وطردت العديد من عمالها غير اليهود. وبعد حرب العام 1967، تخلت إسرائيل عن الخطوط العثمانية في الضفة الغربية، واستخدمت مسارات القطار في سيناء لتحصين دفاعات “خط بارليف” على طول قناة السويس وحبست غزة -مفترق الطرق القديم بين القارات- خلف الأبراج والجدران.
لكن لدى الإسرائيليين أيضًا ما يعتذرون به. يقولون إنهم لو لم يكسروا الخطوط، لكان العرب قد استخدموها لتهريب الأسلحة والرجال لتدميرهم. ويجادل الإسرائيليون بأن العرب هم الذين فككوا الشبكة. فقد استهدف المسلحون الفلسطينيون البنية التحتية للسكك الحديدية خلال انتفاضتهم ضد البريطانيين في الثلاثينيات. وفي حماسٍ مدمر للذات، مزق الفلسطينيون آخر قضبان السكك في غزة لاستخدامها في عمل الأنفاق والصواريخ.
كيف كان يمكن ذات مرة عبور الشرق الأوسط بالقطار
أخيراً، أجهزت الصراعات الإقليمية والحروب الأهلية على الضحية. كان الفرنسيون يسيطرون على ممتلكاتهم في شمال إفريقيا بخطوط السكك الحديدية التي تنطلق وتتوزع من الجزائر العاصمة. ولكن بعد الاستقلال، تقاتلت المغرب والجزائر على الصحراء الغربية، وفي العام 1994 توقف القطار العابر للمغرب العربي المتجه إلى تونس قبل مسافة 1.300 كيلومتر. وتواجِه مدينتان حدوديتان، وجدة ومغنية، بعضهما بعضا، وهما اللتان يوحدهما العرق والدين واللغة والزواج المختلط، وإنما تقسمهما حواجز الجيش. وأصبحت محطاتهما، التي كانت ذات يوم مراكز تجارية، محطات طرفية. وتقول اللافتات التي تمنع الدخول “توقف: شرطة”. وتلتقط الطواويس القمامة من بين خطوط السكة.
غادر آخر قطار طرابلس متوجهاً إلى بيروت في بداية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. وحولت القوات الغازية السورية مدينة “رياق”، مركز التقاطع والإصلاح الكبير للقطارات بالقرب من حدودها، إلى قاعدة عسكرية، وحولت فندقًا مجاورًا إلى غرف تعذيب. وأنهى الهجوم الإسرائيلي في العام 1982 ما تبقى من الخط المؤدي إلى بيروت.
لسنوات، كان قطار أجاثا كريستي السريع هو الناجي الوحيد العنيد. وقد توقف المسار إلى بغداد في الثمانينيات، لكن القطار الليلي من حلب إلى تركيا واصل رحلاته على قدم وساق. ثم جاءت الحرب الأهلية في سورية في العام 2011، وقضت هذه الحرب على كل شيء باستثناء جزء ضئيل من المسار السوري البالغ طوله 2.450 كيلومترًا. وما تزال المنصة قائمة في حلب حيث بدأت “جريمة القتل” في رواية كريستي، لكن طريقها شرقًا إلى العراق تضرر من قصف “داعش”. ودُمرت محطة الموصل. وتم حل الاتحاد العربي للسكك الحديدية في العام 2016. وبعد سلسلة من الهجمات بقذائف الهاون، أغلق معتزل كريستي للكتابة، “فندق البارون”، أبوابه في العام 2014.
مثل القتلة الاثني عشر الذين كانوا على متن “قطار الشرق السريع”، كان لكل واحد من حُكام المنطقة دافع. قامت القوى الاستعمارية بتقسيم الشرق الأوسط. وأعطى الجنرالات الذين خلِفوهم الأولوية لحصصهم من الأرض على السوق والثقافة المشتركة التي تطورت عبر آلاف السنين. واعتبر ديكتاتوريو علب الصفيح الكوزموبوليتانية والتواصل تهديدات للهويات القومية الجديدة. وفقد الدين عموميته وتقلص إلى طوائف مرتبطة بقطع من الأرض. طردت سورية مفتشي قطاراتها الفرنسيين. وأقالت إدارة السكك الحديدية العراقية مديريها اليهود. وبسبب حرمانها من الخبرة، سقطت العديد من الخطوط في الإهمال وأصبحت في حالة سيئة وفي حاجة إلى ترميم. وأصبحت خطوط القطارات مثل أسواق وبازارات طريق الحرير القديمة، آثاراً من الماضي عندما كانت الثروات تجيء من التجارة الإقليمية بدل أن تأتي من ريع مادة خام واحدة، سواء كانت النفط أو الغاز أو الفوسفات. ولم يأت الدفاع في المنطقة من علاقات الجوار الودودة، وإنما من قوة عظمى بعيدة.
كان الحب الجديد هو السيارة. في العام 2019، عبدت مصر الطريق فوق خط الترام الفيكتوري بين وسط القاهرة وضاحية مصر الجديدة. ولتغطية آثارهم، قام الجناة بترميم الأنقاض. وفي العام 2014، حول محبو موسيقا الجاز محطة مار مخايل في بيروت إلى حانة. وحولت إسرائيل محطات القطار القديمة في يافا والقدس إلى نواد ليلية ومطاعم فاخرة. وبإيماءة حنين إلى الماضي، يرسل كل تغيير رسالة تفيد بأن الاستخدام الأصلي لهذه المنشآت قد وصل إلى نهاية الخط.
الحُكم
تنتهي رواية كريستي عندما يتم حل لغز الجريمة. ومع ذلك، فإن قصة الشرق الأوسط لا تنتهي أبدًا. مع اقتراب عصر النفط من نهايته، ثمة دلائل على أن المنطقة تعيد اكتشاف قيمة روابطها القديمة. وتخطط العديد من الدول لتنويع اقتصاداتها نحو التجارة وصناعات مثل السياحة. ويشعر الحكام بالقلق من أنهم لم يعودوا يستطيعون مواصلة الاعتماد على أميركا ويستثمرون في الدبلوماسية الإقليمية. وبعد أهوال إراقة الدماء الطائفية، تفقد سياسة الهوية في المنطقة صلاحيتها. وتعيد الحكومات والحركات السياسية اكتشاف فوائد التعددية الدينية بحذر. وتنتشر الجاليات اليهودية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ولدى إسرائيل أول حزب مسلم لها في الحكومة.
بالتوازي مع ذلك، تتجه فروع السكك الحديدية في المنطقة إلى الخارج مرة أخرى. افتتحت المغرب أول شبكة قطارات عالية السرعة في المنطقة في العام 2018، مع خطط لمدها إلى غرب إفريقيا في غضون 20 عامًا. ويقول محمد ربيع الخليع، رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية المغربية: “مع الوصول والحركة تأتي التجارة. إنها الحبل الشوكي للتطور”. وبعد قرن من تحطيم السعوديين لخط الحجاز، تتسابق القطارات ذات العربات المبنية في إسبانيا بين المدن المقدسة بسرعة 300 كم/ ساعة. ومن المفترض أن يتم افتتاح خط إلى الحدود الأردنية في آذار (مارس)، استعدادًا على ما يبدو ليوم السلام عندما يمكن للمسافرين عبر إسرائيل الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
وبآمال مماثلة، تبني إسرائيل أربعة خطوط، والتي تمتد -بطريقة محيرة- باتجاه الشرق. وإذا كان للشركة الصينية التي تشغِّل محطة الحاويات في حيفا أن تحقق غاياتها، فإن خطًا واحدًا على الأقل سيمدد مشروع “الحزام والطريق” الصيني عبر الأردن. وتقول إيران، التي تتنافس على النفوذ في المنطقة، إنها اتفقت مع العراق على سد فجوة بطول 32 كيلومترًا في خط سكته الحديدية إلى جنوب العراق، بمساعدة صينية أيضًا، ومن هناك على طول طريق الحرير القديم إلى سورية. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أعاد العراق فتح الخط المؤدي إلى الموصل وأعلن عن خطط للتقدم به إلى تركيا. وهناك مخططات لبناء خطوط تربط الدول العربية بمحاذاة الخليج. وتسعى مصر إلى توسيع هائل يشمل بناء أكبر خط أحادي السكة في العالم ومد خطوط جديدة إلى ليبيا والسودان والمملكة العربية السعودية. وعلى عكس المحتال الأميركي في قصة كريستي، فإن قطارات “قطار الشرق وطوروس السريع”، ومعهما حلم بلاد الشام، قد تركب السكك الحديدية مرة أخرى.
 
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: Murder of the Orient Express: Railway lines once connected the Middle East