الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ناجي الجرف … شمس الكلمة لا تغطيها غرابيل الرصاص

ناجي الجرف … شمس الكلمة لا تغطيها غرابيل الرصاص

30.12.2015
أحمد الشمام



القدس العربي
الثلاثاء 29/12/2015
يقول "يوجين غيللفيك" لأن الكلمة دم فهي تضحية نقدمها ، وذو حكمة ليس يدركها سوى القليل فالناطق بكلمة الحق يسقيها من روحه ودمه، وهي عصارة سهر وقلق ، هي ليست ترفا ولا تندرا ولا هذرا، إنها ثمرة تفكير وبحث عن حقيقة تم كتم صوتها وتشويهه بكل الوسائل، من ضجيج وإغواء وصور وغبار ودخان حروب تخاض لترسيخ مقولة أو نقضها، والكاتب إما أن يكون بوقا لسلطة غاشمة مبررا ومسوغا، أو مثقفا مشذب الروح والعقل يقول الحقيقة حاملا دمه بكفه ، كل مافي الأمر أن نبحث عن موقف الكاتب واتجاه حروفه في هزله وجده، في التزامه ومدى تشبثه بموقف ومبدأ يهرق لأجله حياته.
تقول الكتب "في البدء كانت الكلمة" فالكلمة أبجدية حياة لأنها ترمي حجرا وسط ماء السكون والركود، لترقرق مائه وتحركه، معلنة تفتق الحياة وبدء جريان نهرها، وخروجها من حالة المستنقع الآسن، الكلمة تصدح وتقتل الصمت وتهز كيان كل القوى التي تريد أن تفرض هذا الصمت المجبول بالخنوع، ولأن الكلمة صادحة تواجَه إما بالكلمة التي تقف من حاملها بندية المحاوِر وتقارع الحجة بالحجة، أو تواجَه بعنف وقسوة وغدر من قبل القوة الغاشمة التي تجد في الكلمة كشفا لسترها وإشارة ليدها الملوثة بالدم وإن ألبست قفاز حرير.
ولأن الكلمة علم إذ علم الله آدم الأسماء كلها فهي ناموس الإنسانية، وسيرة سعي الإنسان على الأرض ليعمرها بالمعرفة والبحث، ولينقل الحكمة والبلاغة والفكر الذي لا ينضج إلا بنارها وزيتها وصحائفها، الكلمة هي أنفاس وحياة الشعوب المبنية على هجس كتابها، وصفوتها ونخبها وحراسها الساهرين على خوف انحسار مائها، أو تحول مجراه بيد العميان والسذج والجاهلين.
ناجي العلي رسم حجرا بيد حنظلة فكانت كلمة حنظلة أشبه بحجر الحكمة الذي سعت له كيلوباترا لتكتسب توازن الحكمة وهو شعلة بروميثيوس التي أطفأ بها الجهل والظلام.
هي معرفة "سيزيف" الأسطورة ، التي حكمته بحمل الصخر، وحكمة الكاتب الملتزم بقضيته تقول لا بأس بكل صخور العالم نحملها ونقول كلمتنا ، ليس ضروريا أن يكون ناجي الجرف صديقي لأكتب رغم معرفتي غير البسيطة به ورغم اختلافي معه في الرأي وربما بالمرجعية الفكرية أيضا، لكننا توحدنا كحاملي نبراس وراية كلمة، وروح إنسانية تحترق لتشع وتحترم سوريتنا وإنسانيتنا .
الكلمة تصف وترسم وتلون وقد تشوه أيضا، لكن أن تكون الكلمة كلمة حق فذاك يحيل إلى أن تصبح هي والحق صنوين، بل تتحدان في جسم وهيئة واحدة، ويصبح الآخر غاصبا لحق والمكشوف بها عدوا لها، وبدلا من محاولة دحضها بكلمة زور، يرد الآخر مسلحا بهاجس القتل للحق وحامليه ورافعي نبراسه وشارته وشعلته ، ولنا أن نميز روح العدو المقهورة من قوة الحق في الكلمات من خلال تمترسه بالسلاح، هي دلالة جبنه وإحساسه الهستيري بالهزيمة والضعف، الكلمة هي شمس الحقيقة الفاضحة التي لا تغطيها غرابيل الرصاص وكواتم الصوت.
استشهد قبل يومين المجاهد زهران علوش رغم كل ما يحيط به من شك وماله وما عليه لكن اغتياله جاء في ساحة عمل عسكري هيأ نفسه وصحبه لرد من جنس عمله في الثورة وحمل السلاح ، لكن قتل ناجي الجرف الصحافي الثائر بسلاح يعني هوة كبيرة في الجهة المقابلة، يعني هزيمتها وعريها من قدرة الحوار ، ومن إمكانية تملك ناصية اللغة، إذ لا لغة للقاتل سوى أن يبوح بسكينة ورصاصته ، إن الموت كقدرة تخطف نحو هاوية تسير بنفسها إذ ذاك إلى عدم، والند ليس الذي يعيش بغريزة البقاء على قيد الحياة، بل حامل الكلمة وأثرها لتظهر الحياة طاقة متوثبة نحو الانعتاق في النزوع إلى الحركة والتحول والعطاء بينما يسير الموت إلى هاوية مهما أخذ منا، لأن النزوع فلسفيا طاقة عطاء أقوى من هوة الأخذ، إذ يحمل بين جنباته توقا لتسلق سفح الحياة بينما يرقد الموت في قمة ما كصخرة كبيرة تتدحرج بحمق وتأخذ بطريقها من تصادف نزولا إلى هاوية سحيقة ، والرصاص لا يستطيع بكل دويه أن يهزم الكلمة ولا يمكن لكاتم الرصاص إلا أن يكون جبانا ونذلا ، العين تقابل المخرز والكلمة أقوى من الرصاص، كاتم الصوت متسلل جبان وأخرس بلا صوت، والكلمة هي الصوت صوت الحق وصداه ، إن طوفانا ما يمر بنا وتزيد قوته ليمسخنا، ناجي الجرف أنت الناجي برسالتك حتى الموت ونحن الغرقى بالحياة إن لم نتسلح بتلك الرسالة.
كاتب سوري