الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نبوءة بيع إدلب

نبوءة بيع إدلب

14.05.2019
إياد الجعفري


جيرون
الاثنين 13/5/2019
من بين عشرات، بل ربما مئات، التحليلات والقراءات التي غصّت بها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بخصوص ما يمكن أن يحدث في إدلب والأرياف المجاورة لها، كانت أكثرها قدرة على الإيجاز والتوصيف عبارات للسياسي المعارض لبيب النحاس، قال فيها: “إدلب ستسقط في حالة واحدة، لا سمح الله؛ إذا حولناها إلى نبوءة تحقق نفسها بتسليمنا بنظريات المؤامرة والصفقات، وترويجنا لها، واستسلامنا لإعلام العدو واقتناعنا بأننا مسلوبو الإرادة والقرار”، متابعًا: “مستقبل إدلب لم يحسم بعد، وتاريخنا نكتبه بأيدينا حصرًا أو نتركه لغيرنا ليكتبه لنا”.
بطبيعة الحال، لا نستطيع الجزم بنفي وجود صفقة لبيع إدلب، وإن كنا لا نرجح هذا السيناريو. كما لا يمكننا الجزم إن كانت أهداف روسيا من هجمتها الحالية على المناطق المحررة بشمال غرب البلاد، هي أهداف محدودة، كما يرجح مراقبون، وتقتصر على الضغط الميداني للوصول إلى تفاهمات تتعلق بتسيير دوريات عسكرية روسية في المنطقة منزوعة السلاح، أو تفاهمات أخرى تتعلق بتأمين الطريقين الدوليين المارين عبر إدلب، وفتحهما للحركة التجارية، لفك العزلة الجغرافية واللوجستية عن مدينة حلب.. أو حتى قضم مساحات جغرافية من المناطق المحررة..
ما نستطيع الجزم به هو أن الحراك المعارض المسلح، في سورية، يعيش اليوم أمام مفترق طرق جديد، إما سيتابع بعده مسيرته نحو التصفية النهائية، التي سار باتجاهها على مدار السنتين الماضيتين، بدفعٍ مزدوجٍ من تغيّر أجندات حلفاء المعارضة، والصراع الفصائلي محدود الأفق، أو أن ينعطف باتجاه آخر، يعيد الحياة والألق لخيار المقاومة المسلحة للنظام وداعميه، بدفعٍ هذه المرة، من تجارب السنتين الأخيرتين، بكل مراراتها.
اتخاذ القرار في ذلك، لدى صنّاع القرار في قيادات الفصائل الفاعلة في المنطقة، وفي مقدمتها الفصيلان البارزان: “تحرير الشام”، و”الجبهة الوطنية للتحرير”. فالفصائل الفاعلة في شمال غرب سورية تمتلك من الخبرة القتالية، والموارد البشرية، وهامش المناورة الجغرافية القتالية، ما يتيح لها إمكانية تحويل الحرب في أرياف حماة وإدلب وحلب، إلى معارك استنزاف وكرّ وفرّ، تؤدي في نهاية المطاف إلى يأس المهاجمين، الذين يتمتعون بمعنويات مرتفعة، بدفعٍ من قناعاتهم بوجود ترتيبات تمهّد السبيل لهم للدخول إلى المساحات الجغرافية التي يستهدفون قضمها.
قبل أيام فقط، نشرت صحيفة (الأخبار) اللبنانية المُقرّبة من “حزب الله”، ما قالت إنها تفاصيل كشفها لها “ضابط رفيع في الجيش السوري”، كان من المطلعين عن قرب على مجريات السيطرة على جنوب سورية، خلال الصيف المنصرم. وبحسب الصحيفة، فإن “الجبهة الجنوبية” لم تكن جبهة هشّة، وأن النظام ما كان ليخترقها بهذه السهولة، لولا نجاح الجانب الروسي في إنجاز تسويات، جنبت النظام وداعميه معارك طويلة ومنهكة. وأشارت الصحيفة، بصورة مباشرة، نقلًا عن الضابط “الرفيع” ذاته، أن جبهة الجنوب السوري تمّ “تفكيكها”.
ما سبق لم يكن نقلًا عن وسيلة إعلام معارضة، بل نقلًا عن وسيلة إعلام مقرّبة من الحليف الإيراني لنظام الأسد في دمشق. وبالتالي، يمكن اعتبارها وثيقة توضّح أن الروس ونظام الأسد كانا يخشيان الغرق في حالة استنزاف بالجبهة الجنوبية، لكن رهانهم على سيناريو التسويات، بالتعاون مع جهات خارجية، بعضها كان يدعي دعم المعارضة، سهّل مهمة اختراق واحدة من أعقد جبهات الحرب بين النظام والثوار، على مدار سنوات.
اليوم، يدفع قادة المصالحات في الجنوب السوري، أثمانًا غالية: اغتيالات، واعتقالات، واختفاء قسريًا، وتجنيدًا على جبهات متصارعة.. فيما يتحول شباب مناطق التسويات إلى وقود لحرب النظام والروس على جبهة شمال غرب سورية، بالتحديد. وهكذا بات جليًا ما هو مآل وخاتمة سيناريو التسويات والمصالحات مع النظام.
في شمال غرب سورية، المشهد مؤهل للتكرار، من دون شك؛ إذ إنه يحوي العديد من القواسم المشتركة مع المشاهد التي كانت قائمة في جنوب سورية، وفي الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، لكنه مؤهل أيضًا لمنعطف آخر. القرار في ذلك في أيدي قادة الفصائل الفاعلة.
أما نظرية بيع تركيا لإدلب، فتبدو ركيكة للغاية، ليس من زاوية أخلاقية أو عاطفية، بل من زاوية سياسية بحتة. فكلما خسرت أنقرة مساحة أخرى لقوة معارضة في سورية؛ ضاق هامش المناورة السياسي المتاح لها مع الروس، بشأن ترتيبات المستقبل السوري. والأحداث الميدانية تعزّز هذه الفرضية، إذ انسحبت فصائل “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، انسحابًا سريعًا، من البلدات التي اقتحمتها قبل أيام، قرب تل رفعت، في تأكيد على احترام تركيا لتوزع مناطق السيطرة المُستقر منذ أكثر من سنة. وتلك رسالة لروسيا، كي تحترم بدورها مناطق السيطرة تلك.
لكن، ماذا لو كانت تركيا فعلًا “باعت إدلب”؟ الجواب في ذلك يتوقف على قادة الفصائل في المناطق المستهدفة، فهؤلاء يخطون بقراراتهم، وسواعد مقاتليهم، منعطفًا حاسمًا في المشهد السوري. وهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن مآلاته.
في مقابل ما كتبت آنفًا، يمكن أن نقرأ عشرات الكتابات التي تتحدث عن سيناريو “محسوم” سلفًا، يتعلق بنقل أرياف حماة وحلب وجنوب إدلب إلى روسيا، وترك بعض المناطق الجبلية في إدلب لـ “تحرير الشام”. بل طالبت عشرات الأقلام التي من المفترض أنها محسوبة على المعارضة، الفصائلَ الفاعلة في المنطقة، بأن تُجنّب المدنيين مقتلة كبرى، وقال أحدهم: إن “أحدًا في العالم لن ينجدنا”. هذا التهويل، على ما يتضمنه من مخاوف مشروعة، يجعل “نبوءة بيع إدلب” التي روّجها الكثير من “الأنبياء”، في الأيام القليلة الماضية، عن قصد وسوء نيّة، أو عن غير قصد وحسن نيّة، يتجاهل تمامًا خبرات وإمكانات مقاتلي المنطقة، التي تؤهلهم لاستنزاف المهاجمين، لو أحسنوا التكتيك، واتفقوا في غرفة عمليات مشتركة، وامتلكوا إرادة صلبة للصمود.
باختصار: إن “نبوءة بيع إدلب” قد تتحقق بأيدينا، فحسب، وليس بأيدي الأتراك. وكما سبق أن تمكنت حروب العصابات والمقاومات، من تغيير خرائط ومخططات قوى إقليمية، وأحيانًا دولية، كبرى، عبر التاريخ.. فإن هذا الخيار متاح للمقاومين في ذلك الجيب الأخير، المناوئ للنظام والروس. فإما أن يصمدوا ويستنزفوا المهاجمين، ويحوّلوا هجومَهم إلى نكسة؛ فيتحوّل المقاومون إلى رقم صعب يُحتسب لدى جميع اللاعبين الخارجيين على ترابنا، أو أن ننعطف الانعطافة الأخيرة نحو مشهد سوري، لا مكان للسوريين أبدًا، في صناعة ملامحه.