الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نتانياهو إذ يستعرض الصلف في الجولان

نتانياهو إذ يستعرض الصلف في الجولان

25.04.2016
حسن شامي


الحياة
الاحد 24-4-2016
ليس هناك أفضل من مرتفعات الجولان لاستعراض الصلف الإسرائيلي. والصلف ههنا محمول على المعنى القاموسي، أي المبالغة في ادعاء الظرف والبراعة كتعبير عن التكبّر والجبروت. هذا أقل ما يمكن قوله لتوصيف اختيار المكان والزمان اللذين عقدت فيهما حكومة نتانياهو اجتماعها الأسبوعي للمرة الأولى منذ احتلال الجولان.
لا يعود مفاجئاً أن يعلن نتانياهو بقاء الجولان تحت السيادة الإسرائيلية "إلى الأبد"، وعن مطالبته المجتمع الدولي بالاعتراف بهذه الحقيقة الصارخة، وهي أن الجولان جزء من إسرائيل، وأن الدولة العبرية لن تنسحب من الهضبة المحتلّة أبداً.
من هناك إذاً، من الهضبة المحتلة منذ خمسين عاماً، يمكن النظر من علو إلى مشهد الخراب السوري والشماتة ليس فحسب بكل ما يرمز إليه البلد الموغل في التحطّم والتسوّس والتفسّخ، مجتمعاً ودولة ووطناً، بل كذلك بكل الحقل الإقليمي والدولي لسورية. النظرالصلف من علو لا يتعلق، في عرف نتانياهو وحكومته، بسلوك فلسفي يطمح إلى التسامي والتحليق فوق وقائع التاريخ وأهواله ومسرحه العبثي. بل هو طريقة مناسبة لحقن النزعة التوسعية الكولونيالية بجرعة كبيرة من الاستعلاء والسينيكية. لكنّ حفلة الإنشاد والرقص التي أقامتها حكومة نتانياهو حول الركام السوري، ليست مجرد مناسبة تم انتهازها لاستعراض الرعونة والغطرسة. فهي تسعى إلى ضرب عصافير أخرى وتكريس التمادي والتمدد في حقول أخرى، في مقدّمها وضع اليد نهائياً و "إلى الأبد" على كل الأرض الفلسطينية.
رقصة الجولان البذيئة هي نوع من التتويج الذاتي وادعاء الانتصار في عملية مصادرة العناوين الكبرى للحقبة السوداء التي تتخبط فيها المنطقة وسياسات الدول الكبيرة منها والمتوسطة والأقل وزناً وحجماً. العنوان الأبرز الذي تسعى حكومة نتانياهو إلى انتزاع الاعتراف الدولي به هو حقها في وأد المسألة الفلسطينية برمتها. نعم وأدها هكذا أمام أنظار الجميع. وهذا ما يفصح عنه بصراحة التمادي في التوسع الاستيطاني وقضم الأراضي الفلسطينية بكل الطرق، بحيث يصبح حل الدولتين مشكلة كبيرة ينبغي التخلّص منها.
ردود الفعل على "الاستفزاز" الإسرائيلي في الجولان، وفق توصيف الحكومة السورية، تبدو لافتة للنظر على رغم خفوت نبرتها. فالإدارة الأميركية أعلنت امتعاضها من الخطوة الإسرائيلية، واعتبر الناطق باسمها أن الهضبة تبقى أرضاً محتلة طبقاً للقرار الدولي الصادر عام 1981، غداة الإعلان الإسرائيلي عن ضمّها. وهاجم نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، السياسة الاستيطانية الإسرائيلية، وذلك في لقاء مع اللوبي اليهودي "جي ستريت" الموصوف بالليبرالية والمعارض للوبي النافذ، أي "أيباك" الوثيق الصلة باليمين الإسرائيلي. وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، أعلنت موقفاً مشابهاً. الجامعة العربية دانت بالطبع الإعلان الإسرائيلي عن اعتبار الجولان أرضاً إسرائيلية.
كل هذه الردود تبقى، لاعتبارات مختلفة، في إطار الإرشاد التربوي ولا ترقى إلى لغة الحقوق والسياسة. نتانياهو تلميذ يحلو له من وقت الى آخر أن يشاغب قليلاً، ما يجعله يستحق التوجيه، لكن بالتي هي أحسن. هذه المفارقة التي يعبر عنها آخرون، بحق، بالكيل بمكيالين، تكشف في الواقع عن أحوال وأوضاع متفاوتة تفضي إلى مواقف تتأرجح بين النفاق والمحاباة وقلة الاكتراث وصولاً إلى العجز. فليس سراً أن العلاقة بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو ثابتة على اضطرابها، ما دام التلميذ المشاغب يتمتع بنفوذ الأقارب والأحباب داخل هيئات القرار. وهذا يغري المحبين بتذكير أوباما بحدود صلاحياته. وهو يعرفها جيداً ويناور في مقتضاها، بما في ذلك الجدل المتجدد دورياً حول حجم الزيادة الأميركية على المساعدات السنوية المقدمة لإسرائيل.
على الجانب الأوروبي، تصبح المفارقة أحياناً تغطية للنفاق. فإذا كانت عقدة الذنب الأوروبية العتيدة تستخدم كرصيد استراتيجي مفتوح ودين لا نهاية له، بحيث يتعذر انتقاد طرف سياسي طموح ومعتدّ بنفسه بلغة الحقوق السياسية ومستلزماتها، فإن هذه العقدة تتحول إلى غطاء على جريمة موصوفة. هناك مسؤولون في دول أوروبية وازنة مثل فرنسا، يتمسكون بحل الدولتين ويعقدون صلات طيبة مع السلطة الفلسطينية، لكنهم، مثل رئيس الحكومة مانويل فالس، يلقون تهمة اللاسامية على الناشطين في حملة مدنية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في المستوطنات غير الشرعية في نظر الحكومات الأوروبية بالذات. كيف لا يكون هذا التصرف، معطوفاً على اعتبار مناهضة الصهيونية ضرباً من اللاسامية أيضاً، تشجيعاً على التمادي في انتهاك حقوق الفلسطينيين؟.
هناك حلقة ضائعة هي التي تجيز كل هذا الاستخفاف. إنه العجز العربي. فحيال كيان توسعي واستيطاني تسبب خلال ستين سنة بدزينة من الحروب المتعددة الأحجام وباحتلال أراض واستباحة عواصم، لم يجد العرب ما يردعه سوى الاستقالة من المسؤولية التاريخية والسياسية عن النكبة وتفويض الأمر إلى أوليائه الدوليين. ولم يفعل العرب ما يضطر هؤلاء الأولياء إلى التصرف بحكمة سياسية. الوعي العربي الشقي هو هذا. الرد على الهزيمة يكون باستبطان الهزيمة وجعلها صفة طبيعية لشرطهم الإنساني. سيجدون بالطبع أمكنة أخرى للثأر. سيرتجلون صيغة ظرفية للعروبة، كما حصل في الحرب الأولى مع الشريف حسين. سيزوّدهم زمن الإعلام الحديث وتقنيات التواصل بما يكفي للتعويض عن العجز بالخطب والإنشاء البلاغي. لا يمكن أن يتحول العرب إلى فاعل سياسي، عصري وعقلاني وحداثي، من دون أن يعالجوا، في منظار استراتيجي، جملة الأسباب التي قادت إلى النكبة ومن ثم إلى النكسة وصولاً إلى فخ اتفاق أوسلو. في هذا المعنى، تظل القضية الفلسطينية بامتياز، واجتراح حل عادل لها، أكبر حقل اختبار لتحول العرب إلى فاعل سياسي.
والحال، أن نتانياهو أفصح بطريقة مبتذلة عن نجاح استراتيجية الدولة العبرية في قطف ثمار التواطؤ الأميركي والنفاق الأوروبي والعجز العربي. حفلة الجولان هي تتويج لانتصار القراءة الإسرائيلية، والأميركية أصلاً، لاتفاقات أوسلو. فالهدف من أوسلو كان عزل المسألة الفلسطينية وفصلها عن الدائرة العربية المحيطة بها وعن الدائرة الإسلامية الأوسع. وثمة للأسف، من وجد في هذا العزل بداية زمن راشد وأكثر نضجاً لبناء أوطان سليمة بدعوى التخلص من أكاذيب النخب القومجية المتسلّطة. فلنتذكر كيف انقاد العديد من المثقفين والإعلاميين، في الشرق والغرب، إلى اعتبار غياب المسألة الفلسطينية عن شواغل الربيع العربي أمارة على رشد مستجد.