الرئيسة \  مشاركات  \  نظام الحكم لدى فقهاء المسلمين ومتكلميهم

نظام الحكم لدى فقهاء المسلمين ومتكلميهم

14.08.2016
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي


نحو فقه سياسي إسلامي رشيد:
نظام الحكم لدى فقهاء المسلمين ومتكلميهم

مصطلحات النظام السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين:
1 - مصطلح الأحكام السلطانية
بعد عرضنا في الدراسة السابقة لآراء الفلاسفة المسلمين حول نظم الحكم والدولة من منطلقهم الفلسفي، نعرض لآراء طائفة أخرى من الأعلام هم الفقهاء والمتكلمون، وندرج ضمنهم كُتَّاب السِّيَر والتاريخ فيما أُطلق عليه "الآداب الملوكية" و"مرايا الملوك" .
وقد آثرنا أن يكون الفقهاء والمتكلمون في سياق واحد، لأن الفقهاء عادة يشتغلون بعلم الكلام إلا ما ندر؛ فالفقه يجمع الفريقين، وعلم الكلام يميز مراتبهم. ولئن كان مصطلح "فقيه" يختص بعلماء الأحكام الشرعية العملية إيجابا وحظرا وإباحة وندبا وكراهة، فإن المتكلم يتميز عن الفقيه بمعرفة علم الكلام المبني على المنطق ومدارك العقول، والنظر حدا وبرهانا ومقدمات ونتائج. ومَنْ لا إحاطة له بهذا العلم عندهم لا ثقة له بعلومه أصلا، كما قرر ذلك الإمام الغزالي في مقدمة كتابه "المستصفى" .
ولئن كان المتكلمون قد بحثوا فقه الإمامة الكبرى في سياق دراستهم للعقيدة وأصول الدين، مجاراة لفقهاء الشيعة الذين يعدون الإمامة من أصل الدين، فإن غالبية الفقهاء أفردوا لها مصنفات خاصة، وفصلوا أحكامها الكلية والجزئية، ما تعلق منها بصلاحية الإمام اختيارا وعزلا واستنابة واستخلافا، وما تعلق بالوزارة والقضاء وإمارة الجيش وجباية الأموال زكاة وخراجا، وشؤون الإدارة والدواوين والحسبة .
إلا أن هذه المصنفات كثيرا ما تتشابه مواضيعها وتتقارب أساليبها، إلى حد يكاد يجزم المرء فيه بأن بعضها منقول عن بعض، مثلما هو الحال في كتابي "الأحكام السلطانية" للماوردي وأبي يعلى الحنبلي؛ إذ عاش المؤلفان في عصر واحد، وتوفي الماوردي سنة 450 هـ، وتوفي الحنبلي سنة 458 هـ؛ وعبارات الكتابين تكاد تكون واحدة، لولا أن أبا يعلى يذكر فروع الحنابلة ورواياتهم، والماوردي يذكر فروع الشافعية وخلافهم مع المالكية والحنفية .
لقد أطلق الفقهاء والمتكلمون على مباحثهم هذه مصطلحَيْ "الأحكام السلطانية" و"الإمامة الكبرى"، أو الخلافة وإمارة المؤمنين؛ إلا أننا نؤثر أن نتخذ مصطلحا أكثر شمولا ومطلقية ومناسبة لمفاهيم العصر، يسع معاني المصطلحات التراثية إلى جانب ما يتعلق بجوهر تدبير أمر الأمة وشكله. ولعل مصطلح "النظام السياسي للدولة الإسلامية" يفي بما نرمي إليه. وذلك لأن نظام الدولة - أي دولة- ينبغي أن يتناول بالتأسيس والتقنين والرعاية جميع أوجه السير العام لمرافقها، من القمة إلى القاعدة عموديا، ومن أقصى السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية والتربوية إلى أقصى مؤسسات المراقبة والمحاسبة أفقيا. والمصطلحات التي ابتدعت في الفقه السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة قبلهم لا تتسع لكل هذه المعاني.
من أجل ذلك ينبغي البدء بدراسة مدلول كل من هذه المصطلحات، لنتبين مدى كفايتها أو قصورها عن الأداء السياسي بشموليته التدبيرية عموديا وأفقيا، إدارة واقتصادا وسياسة واجتماعا وشأنا عاما.
على أن صعوبة تعترض سبيل هذه الدراسة ، لأن بحثنا فيها شرعي وإن كان اعتمادنا فيها على اللغة؛ والشرع مُتَلَقًّى من الكتاب والسنة؛ ولكون الكتاب والسنة عربيين فلا بد من الرجوع إلى العربية في صميمها. إلا أن العربية نقلت إلينا لا على التواتر؛ فمعاني ألفاظها ظنية في غالب الأحيان إلا ما أثبت الوحي معناه أو نقله إلى معنى آخر. واللفظ كثيرا ما يوضع لعدة معان أو ينقل إلى معنى غيره، وليس لدينا ما يؤكد أنه وضع لهذا المعنى ثم نقل إلى الآخر، أو أنه وضع لجميع معانيه وضعا واحدا لنعتبره مشتركا. لذلك لا بد من الجمع بين طريقة استخدام اللفظ في الكتاب والسنة وبين استقصاء أصوله اللغوية التي لا شك أنها تومئ إلى بعض معناه من قريب أو بعيد .
والمصطلح الأول الذي اتخذه الفقهاء والمتكلمون عنوانا لدراستهم هو "الأحكام السلطانية". وهو مركب من لفظين، نعت ومنعوت، صفة وموصوف، وهو بشقيه اسم لعِلْم خاص. فلفظ "الأحكام" ليس اسما خالصا مطلقا قد انقطع عن نعته الذي يقيد معناه؛ لذلك لا بد في تعريفه من تعريف جزأي المصطلح .
والأحكام جمع مفرده حكم من فعل "حكم" ، مضموم عين المضارع . والحاء والكاف والميم كما في معجم مقاييس اللغة لابن فارس [[1]] أصل واحد هو المنع وتأويله المنع من الظلم، وسُميت حَكَمَة الدابة لأنها تمنعها عن الجماح إلى غير قصد. والحِكْمة هذا قياسها لأنها تمنع من الجهل، ومنه حكمت اليتيم تحكيما إذا منعته من الفساد، وأحكم الشيء إحكاما إذا أتقنه، والحكم بالضم القضاء في الشيء بأنه كذا أو ليس كذا .
والحكم عند النحويين الأصل والقاعدة، يقال الحكم في الفاعل الرفع .
والحكم عند الأصوليين هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع .
والحكم عند الفقهاء عبارة عن أثر خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين .
والحكم في علم القضاء الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام . قال القرافي: " حقيقة الحكم إلزام أو إطلاق" ، فالإلزام كما إذا حكم القاضي بإلزام الصداق والنفقة، والإطلاق كحكمه بزوال المِلك في الأرض التي زال عنها الإحياء.
والحكم عند المناطقة هو النتيجة المستخلصة من مقدمتين بالقياس، فهو موجود في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلوم عن طريق القياس بالفعل، وهو بذلك علم زائد بالفعل.
والحكم عند الفلاسفة ما كان نتيجة منطقية سلبا أو إيجابا لمحاكمات عقلية مبنية على مقدمات، مثل قولك : الصنعة تدل على الصانع ، ولو تعددت الآلهة لفسد الكون .
وعلى هذا فالحكم من الألفاظ التي يتَّحد لفظها ويتكثَّر معناها لغة واصطلاحا، لذلك وجب استنطاق الاستعمال الشرعي لها، على اعتبار أن بحثنا شرعي مبتدأ ومنتهى .
وإذا ما استعرضنا أوجه الاستعمال القرآني للفظ "الحكم" ومشتقاته ، نلاحظ أنه لم يستعمل قط بمعنى الحكم على الناس أو التحكم فيهم، وإنما ورد بصيغ الحكم بينهم والفصل في أمورهم والبث في قضاياهم. ووقوعُه دائما يكون على القضية موضوع الحوار أو البحث أو الخلاف أو التصرف، لا على الشخص ذي العلاقة، حقيقيا كان أو اعتباريا؛ من أجل الوصول إلى حل أو منهج أو قضاء بإلزام أو إطلاق. وهذا يُبعد ما ذهب إليه الفقهاء والمتكلمون في فقه الأحكام السلطانية، من أنه حكم على الناس من قبل حاكم، رئيسا كان أو ملكا أو أميرا .
على هذا النحو سار الأصوليون ، فأجمعوا على أن الحاكم هو الله تعالى بأوامره في الكتاب والسنة ؛ وإنما يطلق على منفذي الأحكام بين الناس لفظ "حاكم" مجازا لا حقيقة . يقول الله تعالى :
ـ ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ( ـ النساء 58 ـ .
ـ ) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ـ النساء 65
ـ ) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ( ـ النساء 105 ـ .
ـ ) وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ـ المائدة 42 ـ .
ـ ) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ( ـ الأنبياء 78 ـ .
هكذا وردت سائر الآيات بمعنى البث والفصل والقضاء، لا بمعنى تحكم فرد أو جماعة في فرد أو جماعة، ولم تقسم الأمةَ إلى حكام ومحكومين كما ذهب إليه الفقهاء والمتكلمون وعامة السياسيين .
ولئن كانت أحكام الكتاب والسنة طالت قسطا هاما من تصرفات الإنسان، فإن الشارع الحكيم ترك مجالا واسعا يحكم فيه الناس بطريق الإنشاء وبكامل حريتهم، تحت نظر الشريعة قواعد ومقاصد ومصالح؛ هذا المجال جعله الله عز وجل ملكا لهم وتحت سيطرتهم وتسلطهم ، وهو المقصود بقوله تعالى : ) وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ( الشورى38.
والحكم بهذا المعنى القرآني يتخذ صورتين :
صورة القضايا التي بثت فيها الشريعة وحسمت بطريق الإلزام .
وصورة القضايا التي تحكم فيها الأمة شورويا بطريق الإنشاء .
وما يعنينا في هذا البحث هو الصورة الثانية ، أما الصورة الأولى فالناس فيها مجرد منفذين للأحكام الشرعية .
على هذا فالحكم الإنشائي يعني تسلط الناس على أمرهم الدنيوي بطريق الإنشاء، وقد حوى في هذا المجال بمضمونه وإيحاءاته، كل المعاني اللغوية الحقيقية والمجازية والشرعية والاصطلاحية؛ فهو منع لأمر الناس من الفساد، وحَكَمَتُهُ التي تضبطه تبعا للمفهوم اللغوي الصرف، وهو قضاء فيه بمعنى الحكم عليه والفصل فيه، وهو القاعدة التي وُضعت له والحكمة التي رشَّدت التصرف فيه .
أما صفة "السلطانية" في تعبير الفقهاء "الأحكام السلطانية" ، فقد أخرجت المصطلح عن جميع المعاني السابقة، لأنها ربطت الحكم بالسلطة والتسلط والسلطان.
يتضح هذا باستنطاق أصلها اللغوي واستعمالها الشرعي. فالسين واللام والطاء كما في معجم مقاييس اللغة لابن فارس [[2]] ، أصل واحد هو القوة والقهر، من التسلط وهو القهر؛ ولذلك سُمي السلطان سلطانا .
وفي تاج العروس [[3]]: السَّلِط والسليط : الشديد ، يقال: حافر سَلِطٌ وسليط أي شديد . والسليط والسليطة من الرجال والنساء من بلسانه حدة أو طول. والسلطان: الحجة والبرهـان والمعجـزة ، قـال تعالى: ) لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن 33 ، ) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( الذاريات 38. ورد اللفظ في هاتين الآيتين الكريمتين بصيغة الجمع: سلطان ومفرده سليط، مثل قفيز قفزان وبعير بعران. والسلطان من كل شيء شدته وحدته وسطوته.
وفي الصحاح [[4]] : السلاطة القهر ، وقد سلطه الله فتسلطن عليهم، والاسم: السلطة بالضم، وسنابك سلِطات أي حداد .
قال أبو هلال العسكري [[5]] : " السلطان قوة اليد في القهر للجمهور الأعظم وللجماعة اليسيرة أيضا، ألا ترى أنه يقال للخليفة سلطان الدنيا وملك الدنيا وقيل : السلطان المانع المسَلَّط على غيره من أن يتصرف على مراده ، ولهذا يقال : ليس لك على فلان سلطان فتمنعه من كذا ".
 إن لفظ "الأحكام" إذ وُصف بـ"السلطانية" وقُيِّد بها، أصبح معناه: الأحكام القاهرة والشديدة والحادة والتسلطية، والمانعة من التصرف، والمتغلبة على كل حجة وقوة .
كل هذه الصفات تبين الزاوية التي انطلق منها الفقهاء والمتكلمون عندما استحدثوا هذا المصطلح؛ وهو ما يتعارض تعارضا مطلقا مع جميع المبادئ والقيم والتشريعات التي أتى بها الإسلام. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم يخاطبه ربه عز وجل بقوله :) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 21-22 ، كما أن مفهوم التسلط والقهر والسيطرة على العباد ينكره القرآن جملة وتفصيلا ، يقول الله تعالى :
ـ ) قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( الرعد 16 .
ـ ) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( إبراهيم 15 .
ـ ) إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ( القصص 19 .
ـ ) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ ( الحجر 42
وفي الحديث النبوي :
- (فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والجبارين) البخاري ومسلم .
- (بئس العبد عبد تجبر واعتدى) الترمذي .
وهذا ما يجعل مصطلح "الأحكام السلطانية" لا ينطبق على النظام السياسي للدولة الإسلامية، ولا ينبغي أن تتخذه أمة مسلمة شعارا لها، ولا يمثل مطلقا العلاقة الحقيقية التي ينبغي أن تبنى بين الأمة وبين قيادتها في ظل تعاليم الإسلام .

[1] - 2 / 91
[2] - 3 / 95
[3] - 5 / 158
[4] - 3 / 1133
[5] - الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 182