الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نظرة على مؤتمر باريس الأخير حول العراق وسورية

نظرة على مؤتمر باريس الأخير حول العراق وسورية

13.06.2015
طارق الهاشمي



الحياة
الخميس 11/6/2015
هذا هو المؤتمر الثاني الذي يعقد في العاصمة الفرنسية باريس، للتشاور حول قضايا الإرهاب في العراق وسورية، بعد المؤتمر الأول في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي. حضر المؤتمر ممثلو أربع وعشرين دولة، من بينهم عدد من الدول العربية وتركيا والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وغيرهم، وشارك فيه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. انتهى المؤتمر بصدور بيان ختامي ومؤتمر صحافي ركز فيه المجتمعون على دعم جهود الحكومة العراقية في الحملة على الإرهاب، كما وردت إشارات حول أهمية المصالحة وضرورة الاستعجال بالإصلاح السياسي وتفعيل مشاركة العرب السنّة بعد أن اقتنع الجميع الآن -كما يبدو- بأن تهميش العرب السنّة حقيقة وليست مبالغة أو تجنياً على حكومة العبادي.
من جهة أخرى، ضمّن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس مؤتمره الصحافي بضعة ملاحظات هامة، من بينها أن "حيدر العبادي تعهد بمصالحة بين جميع مكونات الشعب العراقي"، في إشارة إلى مطالب العرب السنّة بضمان معاملتهم من دون تمييز أو تحيز، ووضع حد لحملة التطهير الطائفي التي انطلقت منذ حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005 مروراً بحكومة المخلوع نوري المالكي ولا زالت قائمة إلى اليوم.
ومع أن العبادي حاول جاهداً –من دون طائل- أن يقنع العالم بإنجازاته الرائعة (!) في مجال الإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني، وحتى المصالحة الوطنية، حيث لم يؤيده فيها أحد من المشاركين أو يثني على أدائه، فإنه جاء إلى باريس يتظلم ويشكو قلة الدعم العسكري، أملاً في تغيير الموقف الغربي "نحن لا نريد منكم السلاح... فقط سهلوا حصولنا عليه"، لكنه عاد خائباً إلا من ألفي صاروخ أميركي مضاد للدبابات! ذلك أن التركيز انصب على تذكير العبادي بوعوده (بالإصلاح ومعالجة الخلل الطائفي)، بل ذهب الوزير الفرنسي إلى أبعد من ذلك بالقول: "لا يوجد حل عسكري من دون التوصل إلى حل سياسي"، وهو المنطق الذي لا يؤمن به العبادي ولا شركاؤه في التحالف الشيعي، إذ هم لا يرغبون في حل ناجع لأزمة العنف والتطرف في العراق.
ربما باستثناء الرسالة التي وجهها المؤتمر إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي، والتي وصفتها الخارجية الفرنسية على لسان الناطق الرسمي بأنها (رسالة صارمة... إلى الحكومة العراقية بضرورة التوصل إلى حل سياسي شامل لتحقيق مصالحة وطنية وبناء ديموقراطية تستوعب المكونات الوطنية العراقية جميعها)، باستثناء ذلك فإن المؤتمر لم يخرج عن الإطار الاستعراضي الخطابي التقليدي.
مصادر عديدة أشارت إلى أن المجتمع الدولي منح العبادي، على رغم قناعته بالتجربة أنه لا يختلف عن سلفه من حيث التسويف والتعطيل، ولا يوفي بوعد ولا يلتزم بعهد، ثلاثةَ أشهر لتنفيذ وعوده كشرط لاستمرار الدعم! إلا أن جميع التوقعات تشير إلى استحالة ذلك، والسبب ربما لا يقتصر على موقف العبادي شخصياً، بل على الجهة التي باتت بفضل دعم إيران وتجاهل المجتمع الدولي، الآمرةَ والناهية وليس رئيس الوزراء حيدر العبادي، ومن هي غير الدولة العميقة بقيادة المخلوع نوري المالكي معززاً بخمسة وأربعين فصيلاً من الميليشيات الطائفية الموالية بقيادة قاسم سليماني، الذي يهيمن فعلاً على إدارة الملف الأمني بعد أن تم تجريد القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي من صلاحياته الدستورية.
المشاركون يعلمون جيدا ضعف حكومة حيدر العبادي مقابل سطوة المليشيات وإرهابها، ناهيك عن نفوذ إيران، لهذا لا أدري في ضوء ذلك كيف يطلبون من مسؤول لا يملك القرار تنفيذ ما لا يقدر عليه، وفي ضوئه لا أجد من قيمة لدعوة التحالف الدولي "على العراقيين أن يتحملوا مسؤولياتهم ويكونوا خط الدفاع الأول عن بلدهم". السؤال: كيف وإيران تعبث بأمنهم ومقدراتهم وتتدخل في شؤونهم وهم يعلمون علم اليقين أن ما بقي من العراق لا يؤهله للدفاع عن نفسه، بينما هم غير مستعدين للقيام بالمهمة نيابة عن العراقيين؟ ولهذا، فالعراق والغرب أمام حالة استعصاء فريدة ربما عبر عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما في لقاء الثمانية الكبار في بافاريا أخيراً بقوله: "ليست لدينا استراتيجية متكاملة لمساعدة الحكومة العراقية على استعادة المدن من تنظيم الدولة الإسلامية"!
قصور مؤتمر باريس يتجاوز ذلك إلى ما هو أهم. لقد تحدث المؤتمر عن تهميش العرب السنّة وطالب بإنصافهم، لكنه تغافل في الوقت ذاته عن دعوة ممثل عنهم ليخاطب المؤتمر ويشرح معاناتهم، واكتفى بالحوار مع الحكومة المتهمة باستمرار هذه المعاناة ممثلة بحيدر العبادي والاستماع إلى وجهات نظره، بينما هو لم يشارك في المؤتمر نيابة أو متحدثاً عنهم. وهكذا، كرر المؤتمر خطيئة العبادي وقبله المخلوع نوري المالكي في تهميش العرب السنّة.
معايير الغرب المزدوجة انعكست أيضاً على المؤتمر بحصر الإرهاب بالتطرف السنّي، وأقصد "داعش"، بينما تغافل عن إرهاب التطرف الشيعي، وأقصد المليشيات الطائفية، على رغم أنها من حيث السلوك أسوأ، بعد أن فاقت وحشيتها وبربريتها كل تصور، إذ فوق ساديتها في سحل جثث الموتى وحرقها وتعليقها وتقطيعها كما يفعل الجزار بالذبيحة، فإنها تسلب وتنهب على نطاق واسع، بل وحتى تنبش القبور. موقف الغرب المثير للشبهة يمكن اختصاره بأنه من جهة يطالب العبادي بالإصلاح السياسي والمصالحة لكنه يمارس براغماتية في نظرته وتعامله مع الميليشيات، وطالما أن هذه المليشيات لا تشكل خطراً على الغرب فلا بأس من أن تمارس كامل حريتها في إرهاب العرب السنّة. في ظل هكذا وضع، لا يمكن أن يكون الغرب شريكاً نزيهاً للعرب السنّة في محاربة التطرف. هذا هو الانطباع الذي لا يختلف عليه أحد وسيبقى هكذا حتى يتخلى الغرب عن معاييره المزدوجة.
مؤتمرات من هذا القبيل تعاني من كل هذه الثغرات، تلامس الحقائق على استحياء، وعلى الرغم من أهميتها لا يمكن التعويل عليها في تقديم وصفة لعلاج أزمة العراق. وستثبت الأيام صدق توقعاتنا. وإن غداً لناظره قريب.