الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نقاط ضعف أردوغان

نقاط ضعف أردوغان

14.08.2014
خليل كارافيلي



الحياة
الاربعاء 13/8/2014
في 2013، تجاوز رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، عقبات بارزة: قمع احتجاجات كبيرة، وبادر إلى إقصاء أنصار الداعية فتح الله غولن من سلكي الشرطة والقضاء. ويبدو أن أردوغان لا يقهر في صناديق الاقتراع، وكان متوقعاً فوزه في أول انتخابات تركية لانتخاب رئيس بالاقتراع المباشر. وهو يسعى إلى توسيع صلاحيات الرئيس ولا يتستر على رغبته في أن يكون "الأب الثاني" لتركيا أو الأب المؤسس الثاني. ويجلو الأب هذا على صورة نقيض مؤسس العلمانية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، ويرمي إلى تغيير وجه تركيا. وليس كلامه عن رسالته "التاريخية" وتنفيذه مشيئة الله خطاباً يبقى حبراً على ورق. فأوجه الشبه بين مدارس التعليم الثانوي في تركيا والمدارس الدينية تتزايد.
ولا يخفى أن الأيديولوجيا الإسلامية ليست وراء فوز أردوغان بالسلطة و"ديمومة" تربعه في سدتها. فالفضل في ذلك يعود إلى الاقتصاد، وكفة الأرباح الاقتصادية كانت وازنة في اقتراع الناخبين له ولحزبه، "حزب العدالة والتنمية". فموجة رؤوس الأموال الأجنبية في العقد الماضي أدت إلى تعاظم الاستهلاك الخاص والعام وتوسع قطاع البناء، وساهمت في نمو الاقتصاد التركي نمواً مضطرداً. لكن أسس قوة رئيس الوزراء ليست مستقرة ولا ثابتة. ويرى الرئيس الشرفي لمجموعة "كوك"، وهي أكبر المجموعات الصناعية التركية، أن أبرز مشكلة بنيوية تجبهها تركيا هي المغالاة في الاعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية. وأصاب الكساد معدلات الدخل فلم تعد إلى الارتفاع. وعلى الأمد الطويل لا يرتجى نمو اقتصادي من التعويل على الاستهلاك وقطاع البناء.
فخلاصة القول أن تركيا وقعت في "شراك (أزمة) الدخل المتوسط" الكلاسيكية، وتعذر عليها الانتقال إلى مرحلة اقتصادية متقدمة. ولا يخفى سبيل الخروج من الأزمة: زيادة الإنتاجية (تقتضي تحسين التعليم) وتحفيز الابتكار (وثيق الصلة بالحرية الثقافية)، ورفع نسبة مشاركة الإناث في سوق العمل. ولن تساهم سياسات أردوغان الأخيرة- ومنها زيادة نسبة تخرج الأئمة عوض الباحثين في العلوم، وتقييد حرية التعبير، ودعوة النساء إلى عدم تأجيل الزواج للانصراف إلى التعليم- في تطور الاقتصاد. وتقويض السياسات الأردوغانية الاقتصاد على الأمد الطويل سيزرع الشقاق بينه وبين أبرز داعميه: شركات الأعمال الكبيرة في إسطنبول ودائرة الأعمال المتدينة والمحافظة في الأناضول.
ولطالما كانت علاقة شركات الأعمال الإسطنبولية – وهي منفتحة على الغرب وثقافته- برئيس الوزراء مضطربة. ففي 2008، دعا أردوغان الناس إلى التوقف عن متابعة صحف يملكها كبير قطاع الأعمال، آيدين دوغان. وفي 2009، فرضت الحكومة غرامة لا نظير لها على مجموعة دوغان الإعلامية مقدارها 2.5 بليون دولار، اثر كشف حساب ضريبي. وقبل أشهر، شن محاسبو مصلحة الضرائب وشرطيون غارة على 3 شركات تملكها مجموعة "كوك" البارزة في قطاعات الطاقة والسيارات والنقل البحري والدفاع والسلع الاستهلاكية الصلبة، جزاء استقبال فندق تملكه المجموعة هذه، فارين من قمع الشرطة في حوادث غازي بارك العام الماضي.
واليوم، يشوب التوتر علاقة أردوغان بقطاع الأعمال الإسلامي التوجه في الأناضول. فالقطاع خسر أبرز أسواقه في الشرق الأوسط نتيجة سياسة "حكومة العدالة والتنمية" الطائفية. فعلى سبيل المثل، ساهم دعم تركيا قضية الإسلاميين السنّة في سورية في تفاقم الحرب الأهلية هناك، وبروز مجموعات جهادية مثل "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ("داعش") في العراق. ففقدت تركيا ثاني أكبر سوق لصادراتها. وفي 2013، بلغت صادراتها إلى العراق 11.9 بليون دولار، وإلى ألمانيا 13.3 بليون دولار. وفاقم تأييد حكومة أردوغان "الإخوان المسلمين" في مصر والتزام سياسة مناوئة لإسرائيل مشكلات قطاع التصدير التركي. فمع إغلاق الحدود مع العراق وتعذر حركة النقل إثر تقدم "داعش"، برزت حاجة المصدرين الأتراك إلى استخدام مرفأ العريش المصري من أجل بلوغ أسواق عبر الأردن. لكن الأبواب أوصدت في وجههم في مصر وإسرائيل. لذا، يسعون إلى البحث عن خط طوارئ للوصول إلى المنطقة عبر إيران.
ويحتاج قطاع الأعمال التركية إلى أسواق جـــديدة وخـــبرات أجنبية واستثمارات أجنبية. وفي تموز (يوليو) الماضي، قصد رئيس غرفة التجارة التركية، وهو من محافظي "العدالة والتنمية" الولايات المتحدة وطلب ضم تركيا إلى اتفاق التجارة الحرة الذي تتفاوض عليه واشنطن والاتحاد الأوروبي. لكن الأميركيين قابلوه بجفاء ونصحوه بإقناع الأوروبيين. وهو أبلغ الصحافيين المرافقين له أن شاغل واشنطن في اللقاءات هو بروز الإسلام القتالي في الشرق الأوسط ودور تركيا فيه. وهذه الرسالة تقلق قطاع الأعمال المحافظ في تركيا. وتحفظات القطاع هذا إزاء توجهات أردوغان هي وراء التفاف رجال الأعمال حول عبدالله غل، الرئيس المنتهية ولايته. واستقبل الأخير بحفاوة في مأدبة إفطار نظمتها غرفة التجارة التركية. وفي ولايته، لم يخف غل ميله إلى سياسات معتدلة تخدم مصالح قطاع الأعمال الوثيقة الصلة بالعلاقات مع الغرب. وبدأ رجال أعمال محافظون وغيرهم الترويج في صفوف "العدالة والتنمية" لتربعه على سدة رئاسة الحزب، بعد أن يبلغ أردوغان رئاسة الجمهورية. وإذا فاز رئيس الوزراء المنتهية ولايته بالرئاسة في الدورة الأولى بأكثر من 50 في المئة من الأصوات، رجحت كفته في السباق على زعامة "حزب العدالة والتنمية".
ولا يسع غل مضاهاة شعبية أردوغان، لكنه يمثل جماعات مصالح لعبت تاريخياً دوراً راجحاً وحاسماً في السياسة. ولاحظ غل في خطابه في غرفة التجارة أن توقعات القطاع الخاص. والطلبات الآتية من الأناضول توجه دفة السياسة في تركيا. وهو مصيب في ملاحظته. ففي الثمانينات، اثر انقلاب عسكري، بادر الجيش إلى إرساء مشروع انفتاح اقتصادي. فقطاع الأعمال كان يطالب بمثل هذه الإصلاحات طوال سنوات، لكن الحكومة المدنية عجزت عن التزامها بسبب معارضة اليسار والنقابات. ومع اختناق الاقتصاد التركي، تعاظمت التوترات الاجتماعية ووتيرة العنف. فتدخل العسكر وأرسى الإصلاح الاقتصادي ومهّد الطريق أمام "صعود" الاقتصاد التركي. وفي مطلع الألفية الثالثة، برزت دعوات رجال الأعمال الأتراك والمقرضين الدوليين إلى المضي قدماً في الإصلاح الاقتصادي والديموقراطية السياسية. فتركيا في نهاية التسعينات كانت على شفير الإفلاس المالي، وبادر التحالف اليميني- اليساري الحاكم إلى التزام سياسات إصلاحية لكنه انهار سياسياً. ودعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقطاع الأعمال حزب "العدالة والتنمية"، فبلغ سدة السلطة.
والعلاقة بين الدولة، أي العسكر والجهاز البيروقراطي، وبين قطاع الأعمال هي علاقة مصالح مشتركة وتكامل. وتصدرت أولويات الجمهورية التركية رعاية مصالح قطاع الأعمال، واندماج تركيا في الاقتصاد الدولي الشامل منذ الثمانينات ساهم في ترسيخ انفتاح الدولة على ديناميات الرأسمالية. أما العلاقة بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية فلم تجل على صورة واحدة في تركيا. ففي الثمانينات، رعى النظام السلطوي المستبد مصالح قطاع الأعمال، وبعد عقدين، رسخت مصالح القطاع في الديموقراطية. وخلافاً لما كانت عليه الأمور في الماضي، لم يعد زواج سلطوية الدولة والرأسمالية ممكناً في تركيا اليوم.
 * باحث في معهد دراسات آسيا الوسطى وطريق الحرير، مدير تحرير "تركي أناليست"، عن "فورين أفيرز" الأميركية، 8/8/2014، إعداد منال نحاس