الرئيسة \  مشاركات  \  نكبة دمشق في مدامع الشعراء

نكبة دمشق في مدامع الشعراء

28.05.2013
يحيى حاج يحيى



يُرجع بعض النقاد شهرة قصيدة أحمد شوقي [ نكبة دمشق ] التي مطلعها

سلامٌ من صَبا بردى أرَقُّ    و دمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ

إلى أنها غُنيت و لُحنت ، و الغناء يجعل للشعر من الشهرة نصيبا و أي نصيب !
كما أن شوقي هو مَنْ هو في الشعر الحديث متانة و أسلوبا و صدق عاطفة !
و كذلك ، فالقصيدة قيلت فيما أصاب دمشق على يد المستعمرين فتداعى العرب يومذاك إلى إغاثة منكوبي سورية [ 1926 ]
و هالهم عظم الجريمة و ضخامة العدوان وقد حملت الأخبار وحشية ما فعل المستعمرون

سـلامٌ مـن صَبا بَرَدى iiأَرقُّ      ودمـعٌ لا يُـكَفْكَفُ يا iiدِمَشْقُ
ومـعذِرة الـيَرَاعةِ iiوالقوافي      جلالُ الرُّزْءِ عن وصْفٍ iiيَدِقُّ
لـحـاها اللهُ أَنـباءً تـوالتْ      عـلى سَـمْعِ الوليِّ بما iiيَشُقّ
يُـفصّلها  إلـى الـدنيا iiبَرِيدٌ      ويُـجْمِلُها  إلـى الآفاق iiبَرْق
تـكادُ لـروعةِ الأَحداثِ iiفيها      تُخالُ من الخُرافةِ وَهْي صِدْق
وقـيل: مـعالمُ التاريخ iiدُكَّت      وقـيل:  أَصابها تلفٌ iiوحَرق
رباعُ  الخلدِ وَيْحَكِ ما iiدَهاها؟      أَحـقٌّ  أَنـها دَرَستْ؟ iiأَحَقُّ؟
فكيف بشوقي لو رأى ما حل بدمشق اليوم على يد مَنْ يدّعون أنهم حكامها ؟! و قد أباحوها لكل آثم ، و فتحوا أبوابها لكل غشوم ؟!

إذا عصف الحديدُ احمرّ أفقٌ    على جنباته واسودّ أُفقُ

و لئن كان المستعمر الدخيل قد فعل ذلك لأن قلبه قد قُدّ من صخر ، فماذا فعل من يمثل الاحتلال الداخلي و قد شهد كل من كان له قلب ، و عينان تبصران على همجية و تخلف هذا المستبد ، و عصاباته المارقة
لقد طالب الأجداد بالتحرر ، و طالب الأحفاد بالحرية و شعارهم [ الموت و لا المذلة ] فماذا كان رد الاستعمار الدخيل و الاحتلال الداخلي العميل ؟!
منطق واحد تشابه إلى حد التطابق بينهما ، فكلاهما لا يَمُتُّ إلى هذا الوطن بصلة و لا تجمعه بأبنائه عاطفة قرابة ، بل و لا بسبب إلى الإنسانية :

إذا ما جاءه طلابُ حق    يقول : عصابةٌ خرجوا و شَقّوا

و ذهب المستعمر و بقيت الشام ، و سيمضي المستبد و تظل دمشق حرة أبية :
بلاد مات فِتيتُها لتحيا    و زالوا دون قومهِمُ ليبقوا
فهاهم بعد عقود من الإذلال و التخريب انتفضوا و كان لهم من سيرة أجدادهم و جِلادهم للمستعمر خير دليل و هاد في طريق الحرية و البذل و العطاء :

و قفتم بين موتٍ أو حياةٍ     فإن رمتم نعيمَ الدهر فاشقوا
و للأوطان في دم كلّ حرٍ    يدٌ سلفَتْ ودَينٌ مُــستَحقُ
و للحرية الحمراءِ بـابٌ     بكل يـدٍ مُضرّجـةٍ يُـدَق

فلتقر عين شوقي و عين كل محب للشام فإن شباب دمشق يدقون الباب الذي أوصد بالقهر لسنوات
و ها هو ذا السور الذي اختبأ خلفه مجرمو العصر يكاد ينقض على رؤوسهم ، و عند ذاك تفتح أبواب الشام ليلج منها العرب و المسلمون إلى فلسطين :

جزاكم ذو الجلال بني دمشقٍ    و عِزُ الشرق أوّلُه دمشق

و من وادي النيل أيضا من السودان ينطلق صوت الشاعر أحمد محمد صالح عام 1945 في قصيدة له بعنوان [ مهد الحرية ، مهر الحرية ] و قد سمع صوت أنين دمشق لا صوت استخزائها واستسلامها فشاركها أنينها،وأعلمَها أنها ليست وحيدة ؟ و لن تكون ، فجرحها جرح العروبة الذي روع أقطارها !
فيدعوها إلى الصبر على الرغم من الجراح النازفة ؟!


صـبرا دمشقُ ! فكلُّ طرف iiباكي      لـما اسـتُبيح مـع الظلام iiحماكِ
جـرحُ  العروبة فيكِ جرحٌ iiسائلٌ      بـكـتِ الـعروبةُ كـلُها لـبكاك
جَـزِعَتْ عُمانُ ، و رُوّعَتْ iiبغدادُ      و  اهتزت ربى صنعاءَ يوم iiأساكِ
و قرأتُ في الخرطوم آياتِ الأسى      و سـمعتُ فـي بيروتَ أنّة iiَشاكِ
ويتساءل الشاعر بحرقة : لماذا تقصف دمشق و تدمر معالم حضارتها ؟ و أي ذنب اقترف أهلها ؟ إلا أنهم لا يحنون الجباه إلا لخالقها :

ضربوكِ لا مُتعففين سفاهةً    لم تأتِ إثما يا دمشقُ يداكِ
ورماك جبارٌ يَتيهُ بحَـوْلِهِ    شَلّتْ يمينْ العلج حين رماكِ

و ماذا لو كان مكان كلمة [ جبار ] اسم بشار ؟! فالمعنى يستقيم و الوزن يستقيم ، و إذا لم يكن علجا فهو يفعل فعل العلوج من كفار العجم !
و يلتفت الشاعر إلى التاريخ : أين مروان ؟ أين ابن هند ! أين الكرامة الموفورة و الرايات مرفرفة ؟
و لكن متى استمر الليل بلا نهاية ؟ و متى كان الظالمون خالدين ؟


صبرا دمشقُ فكلُ همّ زائلٌ    وغدا يلوح مع النجوم سناك
تتألقين كمــا عهدتْكِ دُرةً    في تاج أروعَ مِن أميةَ زاكي
يا مَعقلَ الإسلام في عليائهِ    لا تذعَني للغاصب الـسفاك

وهي لم تذعن فيما مضى و لن تذعن اليوم و لا في ما يأتي من الأيام لا لمستعمر خارجي و لا لمحتل داخلي :

في الجاهلية كان عِزُّك باذخا     و ازدان بالإسـلام عِقدُ حُلاكِ
إن كنتِ تبغين الحياةَ عزيزةً     صوني حِماكِ و سدّدي مرماكِ

و من عراق العروبة و الإسلام ، من بلاد الرافدين ، من بغداد عاصمة الخلافة انطلق صوت محمد بهجت الأثري بقصيدة عنوانها [ دمشق ] نظمها سنة 1925 بعد العدوان الفرنسي الآثم عليها ، و للأثري قصائد مطولة وصفت باللؤلؤ المنضود جمعت في كتاب [دمشق في عيون محمد الأثري ] كما ذكر الأستاذ محمد علي شاهين في مجلة الغرباء الإلكترونية و في هذه القصيدة يلتفت الأثري مخاطبا دمشق و داعيا لها و مستفهما عما راعها ، فهي إن كان مسها الأذى فلقد رحلت عنه الهناءة و السرور ، بل و يدعو [ أميمة ] أن تبكي معه على ما حل بالمدينة الخالدة شأن الشعراء الواقفين على الأطلال يوزعون أحزانهم على من حولهم لعظم المصيبة و ضخامة الكرب :

دمشقُ! حماكِ الله ُ،ما الحادثُ النُّكرُ    سلمتِ ، و فيم البَغيُ راعكِ و الغدرُ
لئِنْ نزلتْ فيكِ الخـطوبُ دواميـا    لقد رحلتْ عني الهناءة ُو البِشــرُ
دَعي عنكِ تطريبي -أميمةُ- جانبا    و بَكّي معي أهلا أصابهمُ الضُّــرُّ

وهؤلاء الأهل أبوا ذل الحياة ، و آثروا الموت الكريم فهم ورثوا المجد كابرا عن كابر ..

ومَنْ كان قحطانٌ أباه ، فإنه    له الصدرُ دونَ العالمين أو القبرُ

فكيف يذلهم وغد ، و يسوسهم نذل ، و هو دونهم أصلا و محتدا ، و قد جرب قتالهم فعاد خائب الأمل ، منقطع الرجاء . فليس له شجاعة كشجاعتهم و لا إقدام يماثلهم!فهذا الوغد وأنذاله:

فـلو  أنـهم أبـطالُ يـومَ iiكـريهةٍ      لـما  انهزموا عند النزال و هم iiكُثرُ
و لا ثـأروا مـن أنـفسٍ iiمـطمئنة      و  مـا كـان عـند الآمنين لهم iiثأرُ
و  لا روّعـوا الغيدَ الأوانسَ iiكالدمى      و مـا كـان يـوما عندهنّ لهم iiوِترُ
و لا ذَعَروا الأطفالَ كالزهر في الرُّبا      و  مـا كـان لـلأطفال عندهمُ وِزرُ
و لا حـرَقوا الـبلدانَ و هْي نضيرةٌ      و أنـهارُها تجري ، و جناتُها iiخُضرُ
و لسائل أن يقول : أَكُتِبَ على دمشق أن تتكرر عليها المأساة ، أليس الذي لقيته بالأمس ، تلقاه اليوم على يد عبيد الصفويين ، و أجراء الشعوبية الحاقدة ؟!
فمن الذي روع نساء دمشق ، و أخاف و أرهب أطفال درعا و اللاذقية ، و دمر مآذن حمص و مساجدها ، وقصف بيوت الآمنين ؟!


ألا سَـفِهَتْ تلـك الحلـومُ بما جنَتْ    و ليس -لَعَمري- للذي قد جَنَتْ حَصرُ
فوالهْفَ نفسي -يا دمشقُ- و ماعسى    يردُّ عليكِ اللّهـفُ والدمـعُ و الزَّفـرُ
 
 
و لكن هل استمر الإجرام أم تقضت أيامه و اندثر ، و صار تاريخا يُروى ، فتتبعه اللعنات على الظالمين !

فصبرا على البلوى دمشقُ ، و إن طَمَتْ    فبعد اشتدادِ العُسرِ ينكشفُ العُسرُ

و مع الصبر فلا بد من مواجهة الباطل و دحره ، فالسيف أصدق أنباء من الكتب .. في حده الحد بين الجد و اللعب ، و إن لم يدعم السنانُ اللسانَ ضاع الحق فلم يرتدع ظلم و لم يرفع قهر :

وما صُنِعَ الصمصـامُ إلا لجائر    على الحق لا يُلويه نَهيٌ ولا زَجرُ
و منْ طلبَ استقلالَه بلــسانه    كمنْ خَطبَ الحَسْنا و ما عنده مَهرُ
 
من قلب المأساة انطلق صوت الشاعر السوري سليم الزركلي في ذكرى العدوان ! و لكن أي عدوان ؟ أهو الذي صار من ذكريات الماضي أم الذي تعيشه دمشق اليوم ؟ فما أشبه اليوم بالبارحة - كما يقولون .. وقد صور الشاعر عام 1946 اللحظات الأخيرة من دنو أجل المستعمر ، فقال : [ طاش سهم السلطات الفرنسية ، و انبرت تقصف دمشق بوابل من نيران مدافعها و رشاشاتها دون وعي ، و قد شعرت أن أوان انفلات سورية من ربقة الانتداب قد حان ، و راحت تضرب ذات اليمين و ذات الشمال . فوقعتْ ضحايا ، و هُدّمتْ مَبانٍ و حُرقتْ دور ]

و ثمة سؤال يبرزه الواقع اليوم : أليس هذا الذي فعلته فرنسا و قد أحست بدنو الرحيل ، هو الذي يفعله نظام العصابة و الشبيحة في دمشق ، و قد تزلزلت الأرض من تحتهم و بدأ نجم وجودهم بالأفول ، فراحوا يهدمون و يقصفون و قد تمزقت على أجسادهم النتنة عباءة الممانعة !!؟
و صدق الزركلي و كأنه يشير بأبياته إلى نظام العصابة و قزمها المتأله :

إن للفخر أمةً لستَ منها    أنتَ في المكْرُمات شرُّ دخيلِ

فيا دمشق انهضي الآن فقد نهضت من قبل و ستنهضين من بعد !وياحمامات المسجد الأموي و الغوطتين كفكفي دموعك و قد روعك المجرمون و كنت آمنة مطمئنة :

كفكفي الدمعَ يا بنـاتِ الهديـلِ    و امسحي بالدماء جفنَ الأصيل
نشر الغدرُ في دمشقَ رُواقــا    يبعث الرعبَ  ما له مِنْ مثيـل
و هوى ، يحصد النفوسَ الأبِيّا    تِ ، و يُزهَى بالهدم و التقتيل؟!

أكان الزركلي سليم يستشف أستار الغيب ؟! أو ليس شبيحة العصابة هم القائلين : [ الأسد أو نحرق البلد ]
أو ليس صبيان حزب اللات و حثالات المالكي الذين تسللوا إلى دمشق هم المرددين [ سنحرق دمشق ]


حَلفَ البغيُ أن يُنكّلَ بالشـام    و يُجـري دماءَها كالســيول
و لقـد فاتـه وفـات ذَويـهِ    أنّ في الشـام أمة ًمِنْ شُـبولِ
ألِفَتْ وطأةَ الخطوب و داست    أرؤسَ الراقصين فوق الطلول

و لقد برّ البَغيُ بيمينه ، و لكن لم يكن حالفا بالله ، بل بالجبت و الطاغوت ، و بعزة المجوس ، و قداسة الطوسي و ابن العلقمي فسقطت الضحايا من الأبرياء ، و امتلأت الدور و الشوارع بأشلائهم و ما حدث بالأمس على يد المستعمر يحدث اليوم على يد الدخيل الفاجر :

يا ضحايا ! و ما أجلَّ الضحايا    في جهاد على البقاء طويلِ
أَطلَعَتْكــم دنيا الشـهادة أقما    را تنيـر الدروبَ بعد أفول

و يختم الشاعر بخطاب بلاده التي لم يَألُها نصحا بأن تحشِد فهي أهلٌ لذاك و قد قهرتْ من قبلُ المغولَ و الصليبيين

كم خطوبٍ وأدْتِ بين ضلوعٍ    من لهيب ، و مهجةٍ من نُصول
و شـهيدٍ دفنتِ  بين جفـون    و نجيـعٍ ما كان بالمطلــول

و غرزت النكبات التي أصابت دمشق في قلوب الشعراء سهاما تقطر دما ، و استقرت أسى في مدامعهم ..
و لكنهم ظلوا متفائلين ، و هم يرون بوارق النصر و التمكين تلوح في الآفاق التي ملأها المجرمون و أعوانهم بسحابات اليأس و القهر و الإرجاف و التوهين ، و نسوا أن الله غالب على أمره ،فهذه شام الإسلام و كنانة العروبة! جرب الكثيرون إذلالها فأذلهم الله على يد فتية آمنوا بربهم و زادهم هدى !!