الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نموذج البغدادي: زمن "العدمية" العربي

نموذج البغدادي: زمن "العدمية" العربي

10.07.2014
خليل العناني



الحياة
الاربعاء 9/7/2014
من فوق منبر "الجامع الكبير" بمدينة الموصل دعا الخليفة "الداعشي" أبو بكر البغدادي، المسلمين إلى طاعته والإسراع بمبايعته بعد إعلان قيام "الخلافة الإسلامية" قبل أيام. وهو الإعلان الذي لا يزال البعض يتعاطى معه باستخفاف إما باعتباره مجرد "زوبعة" أو "مزحة ثقيلة" سوف تنتهي قريباً.
إعلان "الخلافة الداعشية" يشي بأن قطار التغيير في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة جديدة من "العدمية" والعبث واللامعنى. وهي مرحلة تهيل التراب على كل أساطير الحداثة والتحديث التي صنعتها وروجت لها الانتليجنسيا العربية طيلة القرن الماضي. حيث يبدو الأمر وكأن العرب قد داروا حول نفسهم دورة كاملة كي يعودوا إلى" نقطة الصفر" حين رُسم عالم "سايكس- بيكو" والآن يُصار إلى إعادة رسمه وتشكليه ليس من خلال مستعمر أو قوة أجنبية وإنما من خلال حركات وجماعات وقوى تمتلك الجرأة والأيديولوجيا والسلاح.
ظهور البغدادي وإعلان قيام "دولته" هو قمة التراجيديا والفشل العربي في العصر الحديث. وهو بمثابة إعلان صريح عن موت "الدولة" العربية الحديثة رمزاً ومعنى ومضموناً. وابتداء فإن ظهور الرجل وخروجه على الناس علانية بعد اختفاء دام حوالي عشر سنوات يمثل بحد ذاته تحدياً صريحاً وصارخاً لسيادة هذه "الدولة" وما تمثله من بنية ومؤسسات وتقاليد جرى بناؤها وتكريسها طيلة القرن الماضي وتبدو الآن عاجزة وفاقدة للحضور الرمزي والمادي. البغدادي، الذي خطب في الناس مرتديا زياً أسود من القرون الوسطى لا يبدو فقط غارقاً في أحلام "الدولة السلطانية" المتغلبة التي تحكم بالسيف والقهر، ويطالب الجميع بمبايعته وموالاته، وإنما يطرح نفسه بديلاً للأنظمة القائمة. وهو يعتبر نفسه "الأحق" بالخلافة والإمامة، ليس فقط من منظور ديني أممي، وإنما أيضاً من منظور زمني وواقعي باعتباره يقدم "البديل" الأنجع عن "الدولة الوطنية" القائمة.
دعك من التناقضات الجلية سواء في مضمون خطبة "الخليفة" الفارغة المعنى والمضمون والتي لا تليق بمقام "الخلافة"، أو في مظهره الحداثي (الخليفة المزعوم يرتدي ساعة "رولكس" حديثة قدرت صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية ثمنها بحوالى خمسة آلاف دولار)، ولكن الملفت هو قدرته على جذب آلاف الشباب المسلمين من الشيشان وحتى المغرب للانضمام إلى دولته والانضواء تحت خلافته المزعومة (يقدر البعض عدد من ينتمون لتنظيم "الدولة الإسلامية" ما بين سبعة إلى عشرة آلاف مقاتل). بل الأكثر من ذلك فإن البغدادي ورجاله يخططون لتوسيع رقعة "دولتهم" كي تصل إلى الخليج شرقاً وموريتانيا غرباً وسورية شمالاً وأفريقيا جنوباً.
حال العرب منظوراً إليهم في مرآة البغدادي و"دولته الجديدة"، يكشف بؤس ومفارقات اللحظة الراهنة. فمن جهة أولى، فإن البغدادي، وبمعنى من المعاني، هو "الابن الشرعي" للدولة العربية الحديثة التي وُلدت مشوّهة وفاقدة للتناسق والتناغم الهوياتي والإثني والجغرافي. وهو المنتج الأكثر فجاجة لكانتونات "سايكس- بيكو" المصطنعة والتي يشهد بعضها الآن انفجاراً وتمزقاً كبيراً والآخر بالانتظار. وهو من جهة ثانية، بمثابة "الحصاد المر" لعقود من القمع والقهر والعنف الذي استخدمته تلك "الدولة" المصطنعة من أجل تثبيت حكمها وسلطانها على حساب المجتمع والمواطنين. وهو من جهة ثالثة، التجسيد الحقيقي لفشل هذه الدولة في تقديم أي نموذج ناجح أو فعال للحكم طيلة القرن الماضي. وهو من جهة أخيرة، وهي الأهم، دليل على فشل "الربيع العربي" في تحقيق وعوده بالتغيير والاستقرار، وذلك بعدما نجحت "الثورات المضادة"، ولو موقتاً، في إجهاض آمال التغيير السلمي في المنطقة. ومن هنا فليس غريباً أن تكون "دولة" البغدادي الجديدة هي بمثابة الوجه الآخر لدولة "التغلب" والتسلط التي حكمت، ولا تزال، العالم العربي منذ أكثر من نصف قرن. وهي وريثة السلطة الأبوية ولكن هذه المرة تحت عباءة الدين، وكأنما ترد، بنفس الطريقة والأسلوب، على "قهر" الدولة العربية لمواطنيها، ولسان حالها يقول "أنا أولى بالقهر منكم". ومن المفارقات أن يترحم البعض الآن على تنظيم "القاعدة" باعتباره أقل فجاجة وأكثر رحمة من خطر "الدواعش".
وبإعلان خلافته، يطرح البغدادي نموذجاً منافساً لبقية نماذج الحكم والسلطة القائمة في العالم العربي سواء نموذج الدولة "التسلطية" القاهرة، أو نموذج "الدولة الديموقراطية" التي بشر بها "الربيع العربي" أو النموذج "الإخواني" الذي سقط ويجري الآن الإجهاز عليه. وهو يستفيد من الصراع والتناقضات بين هذه النماذج كي يصنع لنفسه مكاناً بين جمهور متزايد أصبح فاقداً للأمل والقدرة على التغيير السلمي.
أما ما يثير الحيرة والقلق حقاً، فأنه على رغم المخاطر الوجودية والجيواستراتيجية التي يمثلها البغدادي ودولته المزعومة، والتي قامت فعلياً بإزالة الحدود بين سورية والعراق وتهدد بعمل مماثل مع بقية بلدان المنطقة، فإن ثمة حالة من الشلل والفشل تسود دوائر الفعل عربياً وإقليمياً ودولياً. فحتى الآن لم تتفق دول المنطقة ومعها روسيا وأميركا على استراتيجية محددة للتعاطي مع "داعش"، وهو ما يسمح لهذه الأخيرة باللعب على التناقضات بين هذه الدول والاستفادة من صراعها على مناطق النفوذ في المنطقة. حتى وإن توصلت هذه القوى إلى حل يسهم في إزاحة أو تحجيم "الخطر الداعشي"، فإنها حتماً لن تنجح في تقديم بديل مقنع لكثير من الشباب العربي اليائس الذي يبدو محشوراً الآن بين خيارين قاهرين، مرة باسم "الحداثة الزائفة" وأخرى باسم "الخلافة العابثة".