الرئيسة \  واحة اللقاء  \  نمورٌ من وَرَق: كيف ظهرت حقيقةُ النظام السوري.. ومَن وراءَه؟

نمورٌ من وَرَق: كيف ظهرت حقيقةُ النظام السوري.. ومَن وراءَه؟

04.05.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 3-5-2015
ثمة مقولتان في التراث العربي تَصدُقان على مجريات الأمور في منطقتنا خلال الأسابيع الأخيرة. تقول إحداهما: "استأسدَ الحَمَلُ لما استنوق الجملُ"، أما الثانية فتؤكدُ على "أن البُغاثَ بِأرضِنا يَستنسِر".
فمنذ أقل من ثلاثة شهور فقط، بلغ الغرور بإيران درجةً دفعتها للتبجح علناً بإعلان سيطرتها على أربع عواصم عربية إستراتيجية، وللحديث، بكل عنجهية، عن عودة الإمبراطورية الفارسية، إلى غير ذلك من عشرات التصريحات والرسائل المباشرة منها وغير المباشرة، والتي (تُبشرُ) جميعها بدخول المنطقة في (العصر الإيراني)!.
أما نظام بشار فقد كان، بدوره، إلى ما قبل أسابيع، يتغنى من قمة الهرم إلى قاعدته بانتصاراته العسكرية والسياسية والإعلامية.
فمن ظهور رأس النظام في عدة قنوات تلفزيونية عالمية مُنتشياً بسيطرته على الأوضاع، ومُفتخراً برؤيته الصائبة وتوصيفه لحقيقة الوضع في سوريا على أنه مجرد إرهاب، ومُستبشراً بالاتصالات المتزايدة، العلنية والسرية، معه ومع نظامه من قبل بعض القوى الدولية. مروراً بممارسات الاحتقار والاستعلاء التي أظهرها مندوبه إلى (لقاء موسكو) حتى تجاه ممثلي (المعارضة) الأليفة الوادعة الباحثة عن الرضا.
هكذا، ظهر مصداق الأمثال العربية المذكورة أعلاه، فحاول الخروف عرض نفسه بمظهر أسدٍ هَصُور، وقدمت بُغاثُ الطير نفسها على أنها نسورٌ كاسرة.
ربما كان هذا مما يُسمى في الأدبيات (مكرَ التاريخ)، وذلك حين يَحدثُ الخسفُ بمثل هذه الأوهام والأحلام وهي في قمة توهجها.
كان كل ما اقتضاه الأمر شيئاً من إعادة النظر في الحسابات القديمة، وبعض (الحزم) السياسي والعسكري والإداري، لتبدأ عملية انهيار الأوهام المذكورة كما تنهارُ قصورٌ من الرمال.
المفارقةُ أن ثمة دوائر عديدة في العاصمة الأمريكية واشنطن، حيث تُكتب هذه الكلمات، تعيش هذه الأيام حالةً من الترقب والاستنفار التحليلي والمتابعة الحثيثة والمراجعة، وربما، الصدمة.
لا نزعم أن الأوساط هنا بعيدةٌ كلياً عما جرى ويجري من تطورات، لكن سرعة وحجم الفوضى والتراجع والانهيار التي يعيشها نظام بشار تبدو أكبرَ من كل التوقعات والتحليلات.
أكثرُ من هذا، يشعر المراقبون أن درجة التخبط الإيراني في عملية (إدارة الأزمة) في سوريا والمنطقة جاءت أكثرَ مما كان متوقعاً، ومما أوحت به وقائعُ وأحداث السنتين الماضيتين على الأقل، حيث كانت التحليلات تؤكد على أن إيران استعادت زمام السيطرة على الأمور في المنطقة بعد شيءٍ من الضعف السابق لتلك المرحلة.
هل لهذا علاقةٌ بالتقرير الذي يستحضره الخبراء هنا اليوم، والذي صدر منذ أسبوعين عن (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) الأمريكي، وأشرنا إليه في المقال الماضي، خاصةً مع الإشارة المُعبرة الواردة فيه في معرض التعليق على (عاصفة الحزم) وتقول: "تجد واشنطن نفسها الآن في موقفٍ غير معتاد، إذ إنها تدعم، دون ضجة، ائتلافاً كبيراً متعدد الجنسيات يتألّف من دول إقليمية، وهذا هو على وجه التحديد نوع تقاسم الأعباء الذي لطالما حلمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتعزيزه".
وهل له علاقة بمقابلة توماس فريدمان مع الرئيس أوباما، والتي قدمنا تحليلاً لها أيضاً سابقاً، وفيها يتساءل الرجل عن سبب غياب دور العرب في إيقاف الممارسات الوحشية لبشار ونظامه تجاه الشعب السوري؟.
ثمة نمطٌ للسياسات الدولية لا يمكن التعامل معه إلا بواقعية، لكن المسألة المهمة هنا أن يتم فعلاً فهمُ تلك السياسات بكل قواعدها ورسائلها، وامتلاك الإرادة السياسية للتصرف بناءً على ذلك.
في جميع الأحوال، من الواضح أن قرارات (الحزم) بكل مستوياتها ومقتضياتها سبقت رسالة أوباما والتقرير المذكور بفترة. وبغض النظر إن كان الحديثُ عن "تقاسم الأعباء" وعن الدور العربي المنتظر في سوريا جاء لاستدراك ما كان يلوح أن (الحزم) المذكور سيقود إليه.. إلا أن المهم في الموضوع أن الجميع بات يُدرك، بشكلٍ متزايد، أن قرار إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة باتَ يُؤخذُ (فيها) بشكلٍ متزايد. سواء كانت المواقف التي ترسم التوجه وتضبطُ الإيقاع وتُنسق المواقف مشهورةً ومُعلنة بأشخاصها وأصحابها، أم كانت هادئةً تعمل بفعاليةٍ كبيرة، ولكن دون ضجيج.
هنا، في هذه اللحظة، يأتي دور السوريين، خاصة منهم المعارضة السياسية والعسكرية. إذ لم يعد ممكناً على الإطلاق استعمال الأعذار القديمة لتبرير العجز في القيام بنصيبهم من عملية تأمين الظروف المطلوبة بإلحاح الآن لإكمال عملية إسقاط نظام بشار. فبعد أربع سنوات من تضحيات أهلهم، صار معيباً اللجوء إلى مقولة قلة الخبرة السياسية، وأصبح مخزياً المضي في المناورات والتحالفات الانتخابية والتنظيمية الداخلية على أنها تمثل ممارسة السياسة، ولم يعد مقبولاً على الإطلاق استمرار الخلافات فيما بين الهياكل السياسية وفيما بين الفصائل العسكرية، وبين الطرفين كلاهما.
لقد أثبت السوريون قدرتهم على دحر النظام وأعوانه بشكلٍ ملحوظ بمجرد حصولهم على شيءٍ من الدعم الفعال. وهذه خُطوةٌ هامة لا شك أنها أخذت بعين الاعتبار لدى من يُراقب التطورات الميدانية في الأسابيع الماضية. لكن هذا يُعتبر شرطاً لازماً وغير كافٍ لاستمرار مسيرة إسقاط النظام التي أخذت زخماً كبيراً في المرحلة السابقة. فالمطلوب الآن هو اتخاذ كل التدابير السياسية والعسكرية والإدارية التي تُثبت أهليتهم لإدارة سوريا بعد سقوط النظام بشكلٍ يلملم الفوضى السائدة فيها.
يعرف السوريون أن الزخم الأخير صار ممكن الحدوث، لأن النظام الدولي أدرك، لأول مرةٍ جدياً، أن بشار ومَن معه ماضونَ في تعميم الفوضى بكل طريقةٍ ممكنة في المنطقة، وبشكلٍ بات يهدد التوازنات المرسومة، الأمر الذي فتح مجال التفكير بإسقاطه والبحث عن بديل.. وهذا هو ما يجعل (الكرة) الآن في ملعبهم، بل ويجعل طريقة تعاملهم مع هذا الوضع مفرق الطريق في تاريخ سوريا الراهن وتاريخ ثورتها.
فإما أن يؤجل السوريون، من أصحاب العلاقة، خلافاتهم السياسية والأيديولوجية والشخصية ليتم التعامل معها لاحقاً بالوسائل السياسية البحتة، ويستنفروا الآن لتأكيد وحدة صفوفهم ويُظهروا قدرتهم على إدارة الصراع، سياسياً وعسكرياً، حتى بعد سقوط النظام، أو يُغلقوا على أنفسهم وبلادهم وشعبهم نافذة فرصة فتحتها المتغيرات، ولا يعلم أحدٌ متى يمكن أن تتكرر.
وإذا كان هذا الخيارُ الأخير خيارَ هؤلاء، فلا مفرﱠ عندها من التفكير جدياً بقوانين التاريخ والاجتماع البشري التي تقول: "يستبدل قوماً غيركم".