الرئيسة \  تقارير  \  نيوزويك: ما الدروس الصادمة التي تعلَّمها قادة الجيش الأمريكي من حرب روسيا وأوكرانيا؟

نيوزويك: ما الدروس الصادمة التي تعلَّمها قادة الجيش الأمريكي من حرب روسيا وأوكرانيا؟

12.03.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الخميس 10/3/2022
نشرت مجلة “نيوزويك” الأمريكية تقريرًا أعدَّه ويليام أركن، الذي ألَّف أكثر من 10 كتب عن قضايا الأمن القومي، عن الدروس التي استخلصتها القيادات العسكرية الأمريكية من حرب روسيا وأوكرانيا. وخلُص الكاتب إلى أن الجيش الروسي (ضعيف ومتراجع).
حرب روسيا وأوكرانيا: نقلة نوعية
يستهل الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا قدَّم هذه المفاجأة التي أحدثت نقلة نوعية، تلكم المفاجأة التي ينبغي أن تغيِّر نظرة الغرب إلى التفوق الروسي، والتهديد الذي تُمثِّلُه موسكو، ومستقبل الكرملين على الساحة العالمية.
وبعد مرور يوم واحد فقط من هذه المعركة، فقدت القوات البرية الروسية معظم زخمها الأوَّلي، من جرَّاء نقص الوقود والذخيرة والطعام، بل أيضًا بسبب القوات التي تَتَّسِم بضعف التدريب والقيادة، وبدأت روسيا تتدارك نقاط الضعف التي تواجهها قواتها البرية من خلال شَنِّ مزيد من الهجمات الجوية والصاروخية والمدفعية البعيدة المدى، ولجأ الرئيس الروسي بوتين إلى التهديد النووي، الذي يرى خبراء عسكريون أمريكيون أنه رد فعل لفشل قوات موسكو التقليدية في إحراز تقدُّم سريع على الأراضي الأوكرانية.
ويشعر مراقبون آخرون بالذهول من أن القوات الروسية، المُجهَّزة بالكامل والتي تشُن هجومها من الأراضي الروسية، لم تتمكَّن من التحرُّك إلا لمسافة تقدر بعشرات الأميال فقط داخل بلد مجاور، وفي تصريح لمجلة “نيوزويك”، قال جنرال متقاعد في الجيش الأمريكي في رسالة كتبها عبر البريد الإلكتروني، إننا: “نعلم أن روسيا تمتلك جيشًا متباطئًا وأن القوات العسكرية الروسية لطالما كانت تُمثِّل أداة غير حادة، ولكن لماذا تخاطر بأن يكرهك الكوكب بأسره إذا كنت لا تحظى بفرصة تحقيق الحد الأدنى من المكاسب؟” ويعتقد الجنرال العسكري أن التفسير الوحيد لهذا الأمر هو أن الكرملين بَالغَ في تقدير قواته.
وينقل التقرير التصريح الذي أدلى به مسؤول سابق رفيع المستوى في وكالة الاستخبارات المركزية أثناء مقابلة أجرتها معه مجلة “نيوزويك”: “أعتقد أن جوهر التفكير العسكري الروسي يتمثَّل في معرفة كيف زحف المارشال جوكوف (أحد أهم الجنرالات العسكرية الروسية في الحرب العالمية الثانية) عبر جميع أنحاء أوروبا الشرقية إلى برلين”. وتمثَّلت الأوامر التي أصدرها جوكوف للقوات الروسية في أن “تصطف المدفعية وتدمِّر كل شيء أمامها، ثم أرسلوا جيش الفلاحين ليقتل أو يغتصب كلَّ مَنْ بَقِيَ على قيد الحياة”.
تداعيات الإخفاقات العسكرية
ويرى الكاتب أنه على المدى القصير، تزيد (الإخفاقات العسكرية الروسية) في أوكرانيا من خطر التصعيد، بما في ذلك إمكانية استخدام الأسلحة النووية، ولكن على المدى الطويل، إذا لم يتفاقم التصعيد وأصبح بالإمكان احتواء صراع روسيا وأوكرانيا، فسيؤدي الضعف العسكري الروسي التقليدي إلى قلب كثير من الافتراضات رأسًا على عقب، حيث يرى خبراء إستراتيجيون في الشؤون الجيوسياسية، بما في ذلك خبراء داخل الحكومة الأمريكية، أن روسيا تُمثِّل تهديدًا عسكريًّا.
ووفقًا للتقرير، ترى الولايات المتحدة والغرب أن العقبات التي تقف أمام حرب أوكرانيا تذكِّرنا بانهيار الاتحاد السوفيتي، تلك اللحظة التي أثارت الدهشة عندما أصبح من الواضح أن جيشًا يُفترَض أنه لا يُمكن إيقافه كان يحجب عن الأنظار اقتصادًا منهارًا وقاعدة سياسية وبشرية ضعيفة. وبعد ثلاثة عقود، يبدو أنه لم تُستخلَص سوى بضعة دروس. وتستمر موسكو في الاستثمار في العتاد على حساب تجاهل البُعْد الإنساني للحرب (والأبعاد الإنسانية لقوة الدولة القومية)، كما تجاهل القادة الروس حقيقة أن النجاح في عصر المعلومات، حتى النجاح العسكري، يستلزم توفير تعليم وإطلاق مبادرة مفتوحة، والتمتُّع بالحرية كذلك.
وكتب الجنرال العسكري المتقاعد لمجلة “نيوزويك” قائلًا: “لا يريد أي ديكتاتور أو مستبد، يرغب في الاحتفاظ بالسلطة إلى الأبد، أن يغرس كثيرًا من هذه المهارات في قلوب القادة العسكريين الذين يشغلون رُتبًا أدنى”. وبحسب الجنرال السابق، فسواء كان صدام حسين أم فلاديمير بوتين، يُنظَر إلى الإفراط في غرس المهارات في المرؤوسين العسكريين على أنه يزيد من احتمالية حدوث انقلاب.
محاور الهجوم الروسي
وبحسب التقرير، استخلص محلِّلون وخبراء عسكريون أمريكيون عِدَّة دروس أثناء مراقبتهم لحرب روسيا وأوكرانيا خلال الأسبوع الماضي. وفي نحو الساعة الرابعة صباحًا بالتوقيت المحلي يوم الخميس، غزت روسيا أوكرانيا على طول أربعة محاور رئيسة، حيث هاجمت موسكو العاصمة الأوكرانية كييف من بيلاروسيا شمالًا، التي تبعد عن كييف بـ70 ميلًا فقط، ومن الأراضي الروسية شرقًا، بعد أن تحركت القوات الروسية غربًا نحو كييف، أكبر مدينة في البلاد (التي يبلغ عدد سكانها نحو 2.5 مليون نسمة).
وبحسب ما يقول الكاتب هاجم المحور الثاني مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا (يبلغ عدد سكانها 1.4 ملايين نسمة)، التي تقع على بُعد أقل من 20 ميلًا من الحدود الروسية. ودخل الهجوم الثالث أوكرانيا من شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا والبحر الأسود من ناحية الجنوب، إلى شرق مدينة أوديسا، ثالث أكبر مدينة في أوكرانيا (يبلغ عدد سكانها مليون نسمة). وتوجَّه المحور الرابع في الشرق غربًا عبر مدينة لوهانسك ليشن هجومه من مدينة دونباس التي يهيمن عليها الروس.
وتزامنًا مع تنفيذ القوات الروسية الهجوم البري، هاجم 160 صاروخًا روسيًّا أهدافًا من الجو والبر والبحر. ورافقت تلك الهجمات نحو 80 قاذفة قنابل وطائرة مقاتلة روسية شنَّت هجومها على دفعتين رئيستين، ووفقًا لمصادر وتقارير استخباراتية أمريكية على الأرض، أسفرت الهجمات التي يبلغ عددها نحو أربعمائة هجوم في الساعات الأربع والعشرين الأولى عن قصف 15 غرفة تحكُّم في القيادة ومقرات عسكرية و18 منشأة دفاع جوي و11 مطارًا، و6 قواعد عسكرية.
ويرى الكاتب أن هذا الهجوم لم يكن ساحقًا. بيد أن معظم المحللين الغربيين افترضوا أن روسيا أرادت فقط أن تُمهِّد الطريق لقواتها البرية حتى تحتل العاصمة وتطيح الحكومة. وستُنفَّذ هجمات لاحقة، لا سيما أن موسكو لم تستخدم سوى نسبة صغيرة من القوات الجوية والصاروخية الروسية في الهجوم الذي شنَّته في اليوم الأول من الحرب.
وبحلول نهاية يوم الخميس، تحرَّكت القوات البرية الروسية إلى أوكرانيا، بعد أن حظيت بدعم الضربات الصاروخية والمدفعية القصيرة المدى. وظهرت القوات الخاصة والمتمردون الروس، مرتديين زيًّا رسميًّا وآخر مدنيًّا، في وسط مدينة كييف. وانتقل جنود المظلات جوًّا، قبل القوات البرية الرئيسة، إلى مطار هوستوميل على الأطراف الشمالية الغربية من ضواحي كييف. وأحرزت موسكو أكبر تقدُّم في المنطقة الشمالية الشرقية من أوكرانيا، أي على خط مستقيم من مدينة بيلجورود الروسية إلى كييف. وتوجَّه المحور الثاني إلى العاصمة، حيث بدأت القوات الروسية شنَّ الهجوم على بُعد نحو 200 ميل.
ظهور نقاط الضعف
وبعد ذلك، بحسب التقرير، بدأت تظهر نقاط ضعف الجيش الروسي، وعتاده العسكري، وإستراتيجيته المُفرطة في التفاؤل. وربما تتمثَّل أهم نقطة في المعركة في مطار هوستوميل، الذي يقع شمال كييف، ويُمثِّل أهمية في الجهود التي تبذلها روسيا من أجل الإسراع بإطاحة الحكومة الديمقراطية في أوكرانيا وتحقيق “تغيير في النظام”. وكانت القوات الروسية المحمولة جوًّا التي تحملها طائرات مروحية قد هبطت في المطار في الساعات الأولى من صباح يوم الخميس من أجل تأسيس نقطة انطلاق داخل مدينة هوستوميل، ولكن بحلول نهاية اليوم، استعاد الجنود الأوكرانيون السيطرة على المدينة.
وفي الوقت ذاته، تعثَّرت الحافة الأمامية للقوة الرئيسة التابعة للقوات الروسية على بُعد 20 ميلًا شمال كييف؛ إذ تباطأ تقدُّم الدبابات وعربات المدرعة أثناء توجُّهها جنوبًا على طول الضفة الغربية لنهر دنيبر، الذي يمتد من الحدود مع بيلاروسيا ويقسم العاصمة الأوكرانية. وتعثَّرت عمليات إعادة الإمداد اللوجستي الروسية، وهاجم الجنود الأوكرانيون، فضلًا عن الطائرات المقاتلة في البلاد، القوات الروسية المتقدمة، حتى انتصرت كييف انتصارًا غير متوقع. وأثبت الجيش البري الروسي أنه لا يرقى إلى تنفيذ هذه المهمة، كما ظهرت عِدَّة قصص تفيد أن هناك جنودًا روسًا يشعرون بالارتباك وفقدان الحماسة، وفي الوقت ذاته، فاق الجيش الأوكراني ودفاع الشعب الأوكراني كل التوقُّعات، وأصبحت الرواية السائدة هي أن النساء العجائز اللاتي تسلَّحن بعصي المكانس هزمن الجيش الروسي.
وباستثناء الهجمات البعيدة المدى، فشل كل شيء تقريبًا فيما يتعلق بالرشقة الأوَّلية للحرب الروسية على أوكرانيا، ولم تُعطَّل الدفاعات الجوية الأوكرانية، ولم تخرج المطارات الأوكرانية عن الخدمة، وتمكَّن المواطنون الأوكرانيون المدافعون عن بلادهم من الصمود والتحرُّك إلى حد كبير من دون قيود في جميع أنحاء البلاد، وسرعان ما احتشد جنود الاحتياط والمدنيون الأوكرانيون، وعُزِلَت القوات الروسية المحمولة جوًّا والقوات الخاصة التي دخلت في عمق أوكرانيا عن القوة الروسية الرئيسة على أرض أوكرانيا، كما انقطعت أيضًا عن العتاد الأساسي، لا سيما إعادة التزويد بالذخيرة.
والأهم من ذلك أن روسيا لم تتمكَّن من إدراج أي أداة من أدوات الحرب الحديثة، أي الحرب الإلكترونية والسيبرانية والفضاء، في هجومها العسكري. وفي أوكرانيا، لا تزال الكهرباء تعمل، فضلًا عن أن البنية التحتية للاتصالات (بما في ذلك الإنترنت) تعمل بأعلى مستوياتها.
إستراتيجية مُقيِّدَة
ويلمح التقرير إلى أن مصادر استخباراتية أمريكية أوضحت لمجلة “نيوزويك” أنه مع أن القوات البرية الروسية كانت بطيئة وغير منسَّقة بصورة مدهشة، إلا أن الإستراتيجية والأهداف التي وضعها الكرملين قيَّدت تلك القوات بشدة أثناء تنفيذ هجومها الأول. ويقول ضابط في القوات الجوية الأمريكية الذي شارك في التخطيط لحرب العراق عام 2003: “هناك كثير من البنية التحتية المدنية التي قد تدمِّرها قوات العدو إذا كانت نيتها احتلال البلاد”، كما يقول مراقبون عسكريون، في مَعْرِض الإشارة إلى إن أوكرانيا تُعد جزءًا لا يتجزأ من روسيا، لن تستطع موسكو شنَّ هجوم صريح ومباشر على الشعب الأوكراني.
وربما تسعى روسيا أيضًا إلى الحفاظ على بعض مظاهر حُسْن النية مع المجتمع الدولي (بل مع الشعب الأوكراني) في عدم تعمُّد شنِّ هجوم على المدنيين أو الأهداف المدنية، وادَّعت الحكومة الأوكرانية أن 32 هدفًا مدنيًّا فقط تعرضوا لقصف الهجمات التي شنَّتها موسكو في اليوم الأول من الحرب، وأن جميع هذه الهجمات وقعت تقريبًا عن دون قصد، وبحلول نهاية الأسبوع، كان ذلك العدد لا يزال منخفضًا، وذكر مسؤولو الصحة الأوكرانيون أن نحو ثلاثمائة مدني لقوا حتفهم بالإضافة إلى إصابة ألف شخص آخرين، وعلى الرغم من وقوع عِدَّة حوادث أسفرت عن إصابة أهداف مدنية، فإنه لا يبدو أن أي حادث منها كان مُتعمَّدًا حتى الآن؛ إذ تكافئ نسبة الإصابات والأضرار في صفوف المدنيين نسبة الإصابات والأضرار الناجمة عن الحروب الجوية الضارية التي شنتها الولايات المتحدة.
ويستدرك التقرير: فيما يقول محلل آخر إنه قد يبدو مثيرًا للدهشة أن إجمالي الجنود الروس الذين نفذوا الحرب يبلغ 150 ألف جندي، بيد أن تلك القوات توغَّلت في أوكرانيا من نحو 15 موقعًا مختلفًا، ما أسفر عن تقسيم قوة كل هجوم فردي، ويرى المحلِّل أن هذا النهج المتعدِّد الجوانب يبرهن على مبالغة أخرى في التقدير من جانب موسكو، وهي أن كييف يمكن احتلالها بسرعة.
وفي اليومين الثاني والثالث من الحرب على أوكرانيا، استمرت القوات التي تشن هجمات من الجهة الشرقية، حيث خرجت أقوى خطوط الإمداد، في التقدُّم، وتمكَّنت نحو 12 مجموعة تكتيكية من الكتائب (نحو 11 ألف جندي) من الوصول إلى مدينة أوختيركا، التي تقع على بُعد نحو 100 ميل من كييف. كما دخلت الدبابات مدينة خاركيف بعد قصف واسع النطاق، ثم تصاعدت وتيرة الهجمات داخل المدينة على أمل السيطرة على ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، ولم يحرز الجزء الأكبر من القوات الروسية الرئيسة في شمال كييف، حيث تشن نحو 17 مجموعة تكتيكية من الكتائب ووحدات دعم (24 ألف جندي) هجماتها على الضفة الغربية لنهر دنيبر، تقدمًا محدودًا. ووصلت العناصر الأمامية إلى الضواحي الشمالية بحلول يوم السبت، وبحلول يوم الاثنين، اندلع قتال عنيف بالقرب من وسط العاصمة.
وبحلول نهاية الساعات الاثنتين والسبعين الأولى، تحوَّلت معظم الهجمات الروسية إلى ضربات مدفعية وصواريخ بعيدة المدى، وكانت معظم هذه الهجمات تُشنُّ من الأراضي الروسية والبيلاروسية، حيث تتمتع منصات إطلاق الصواريخ بالحصانة من الرد الانتقامي.
وادَّعت وزارة الدفاع الأوكرانية خلال ثلاثة أيام من القتال أن نحو سبعمائة مركبة روسية تعرضت للتدمير أو التعطيل أو التهجير، بما في ذلك 150 دبابة، كما أسقطت القوات الأوكرانية قرابة 40 طائرة ومروحية روسية (وتحطَّم بعضها). وفي إحدى الحوادث، أسقطت طائرة مقاتلة أوكرانية من طراز إس يو-27 “فلانكر” طائرة نقل روسية كانت تُقِلُّ قوات احتلال إلى كييف. وبحلول نهاية اليوم الثالث، ادَّعت روسيا أن عدد “نقاط المطابقة” الأوكرانية المستهدفة التي تعرَّضت للهجوم قد تضاعف إلى 820 نقطة، بما في ذلك 14 مطارًا و48 منشأة دفاع جوي. كما زعمت روسيا أنها دمَّرت 87 دبابة أوكرانية “وأهدافًا أخرى” في ساحة المعركة.
معركة مستمرة
ويبرز التقرير الرسالة التي أدلى بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم السبت، إذ أوضح أن القوات الأوكرانية تمكَّنت من صدِّ الهجوم الروسي لمدينة كييف، وإن خطة موسكو التي تهدف إلى سرعة الاستيلاء على العاصمة وتنصيب حكومة دمية أُحبِطَت. وأضاف زيلينسكي: “المعركة الحقيقية من أجل السيطرة على كييف مستمرة، وسوف ننتصر فيها”.
ومع أن عدد المُعدَّات قد يكون مُحبِطًا، فإن الإصابات التي وقعت في صفوف الوحدات العسكرية الروسية والأوكرانية تَتَّسِم بمزيد من الواقعية والشفافية، ووفقًا لمصادر استخباراتية أمريكية، قُتل نحو ألف جندي روسي أو أصيبوا بجروح بالغة في كل يوم من المعركة، وتشير تقديرات إلى أن عدد القتلى في صفوف الجيش الأوكراني (نحو 3 آلاف قتيل) يكافئ قتلى القوات الروسية، ما يبرهن على حِدَّة المعركة البرية في المواقع الأمامية، وادَّعت وزارة الخارجية الأوكرانية يوم الأحد أن إجمالي 4300 جندي روسي قُتِلوا، وأن ما يزيد على 200 آخرين أُسِروا، وبدأت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تلاحظ حالات فرار جنود روس، فضلًا عن زيادة التقارير التي تؤكد رفض الجنود المشاركة في القتال.
“على مدار ثلاثة أيام، لم تتمكَّن روسيا من تحقيق ما حقَّقناه في العراق خلال ثلاث ساعات عام 2003”. هكذا قال ضابط كبير متقاعد في القوات الجوية، ويصف التقرير هذا التصريح بأنه مُبالغ فيه إلى حدٍّ ما، ويضيف الضابط السابق: في غضون ثلاثة أيام، بلغ عدد النقاط المستهدفة التي هاجمتها روسيا ربع النقاط المستهدفة التي قصفتها الولايات المتحدة في الضربات الجوية الافتتاحية في العراق (أكثر من 3200 نقطة مستهدفة). ويشير تحليل أوَّلي أعدته الاستخبارات الأمريكية إلى أن روسيا جهَّزت 11 ألف قنبلة وصاروخ من أجل قصف نحو 820 “نقطة مستهدفة” منفصلة على وجه التحديد، أو بواقع مُعدَّل نجاح يصل إلى 7% (بلغ مُعدَّل النجاح الأمريكي في العراق عام 2003 أكثر من 80%).
ويرى الضابط الكبير أن “تضافر الهجمات المنسَّقة وآثارها لم تتحقَّق”. على سبيل المثال، يتمثَّل الهدف من الهجوم على الدفاعات الجوية في ضرب حلقات الوصل المركزية بين منصات إطلاق الصواريخ وأنظمة الإنذار المبكر، بحيث ينهار النظام بأكمله، ويتابع الضابط السابق: “يبدو أن الروس يركِّزون على شنِّ هجمات تدريجية لأن التخطيط لهجومٍ منسَّق يبدو معقدًا للغاية بحيث يتعذر عليهم النجاح في تنفيذه”.
ووفقًا للتقرير، تجاهل ضابط متقاعد آخر مازحًا التحركات التي قامت بها روسيا ووصفها بأنها “صادمة وشنيعة”، مستشهدًا بـ”الصدمة والترويع” التي أصابت العراق، حيث وقع هجوم في بغداد بصفة أساسية ووضع النظام وهيكل القيادة العراقيين في حالة فوضى لم يتعافيا منها أبدًا.
وفي يوم الأحد، أمر الرئيس الروسي بوتين بوضع القوات النووية الروسية في “نظام خاص من واجب القتال”، ورأى مراقبون غربيون أن هذا الوضع يعني رفع حالة التأهُّب النووي. وقال بوتين إن التحوُّل في استعداد القوات النووية جاء ردًّا على “تصريحات حلف الناتو وفرض عقوباته العدوانية”. غير أن التفسير الأدق يتمثَّل في أنه في ظِل فشل موسكو العسكري، أصبح التهديد النووي ضروريًّا لإحباط أي تدخُّل مُحتمَل لحلف الناتو.
مخاوف من الفشل
ويضيف التقرير: كما يمكن أن نلمس حَذَر بوتين من الفشل المُحتمل في الاجتماع المفاجئ الذي جمع بين مسؤولين أوكرانيين وروس على الحدود البيلاروسية، واتفاقهم على الاجتماع مرةً أخرى في الأيام المقبلة. ويرى مراقبون عسكريون أن أفضل شيء يمكن أن ينقذه بوتين هو الحفاظ على ثلاث بؤر في الأراضي الأوكرانية، في إشارة إلى كييف وخاركيف وشمال شبه جزيرة القِرم، ويمكن أن تكون هذه البؤر أوراق مساومة مقابل الحصول على “ضمانات أمنية” فيما يتعلق بأوكرانيا، مثل التعهُّد بعدم الانضمام إلى الحلف الغربي (حلف الناتو) أو أن يصبح هذا البلد “محايدًا” رسميًّا، من أجل تفادي الروابط العسكرية مع الناتو.
وتقول مصادر في البيت الأبيض إن خطاب حالة الاتحاد (وهو خطاب سنوي يلقيه رئيس الولايات المتحدة أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأمريكي في مبنى الكابيتول) الذي سيلقيه الرئيس الأمريكي جو بايدن سيركز على أوكرانيا: أي الحرب الروسية (غير المُبرَّرة) وانتهاك بوتين للقانون الدولي، والدفاع الشجاع الذي ينفذه الشعب الأوكراني، والأخبار السارة عن تضامن حلف الناتو وفرض العقوبات الصارمة. ويستتر التهديد النووي الروسي وراء كل هذه الأمور، وهو الذي لم يتصوره أحد في واشنطن، والذي تسبَّب، وفقًا لخبراء الدفاع، في فزع الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي.
ويرى الكاتب أن الخوف من التصعيد بين روسيا وأوكرانيا على المدى القصير قد يؤدي إلى تركيز واشنطن وحلف الناتو على اتخاذ قرارات وقت وقوع الأزمات، والتسبًّب في إعادة طرح مخططات الحرب الباردة للتعامل مع هذه الأوضاع.
وعلى المدى الطويل، يُمثِّل الاعتراف بالضعف العسكري الروسي تحديًا أساسيًّا للإستراتيجية التي وضعتها الولايات المتحدة وأولويات الإنفاق، بل بسط سيطرتها القوية على العالم، كما يُشكِّك هذا الاعتراف في هوس واشنطن بعدو “نظير” مُفترَض وتأكيد الولايات المتحدة على امتلاك جيش أكبر وزيادة الإنفاق الدفاعي باستمرار بغية التصدي لروسيا. ويُمثِّل تغيير هذه الرواية المتعلقة بالجيش الروسي أيضًا تحديًا أساسيًّا لحلف الناتو وأعضائه الأوروبيين، وعلى الرغم من حتمية رفع درجة الوعي وحتى الخوف من رغبة موسكو في اللجوء إلى سلوك متطرف، بل متهوِّر، فإن الحقيقة تتمثَّل في أنه لا توجد حاجة لزيادة الإنفاق الدفاعي أو تمديد ولاية القوات البرية الأوروبية.
وعلى الرغم من أن كثيرًا من المراقبين سيجادلون بأن التركيز الجديد يجب أن يعود إلى التركيز القديم، أي الاحتواء والحرب الاقتصادية لإضعاف الدولة ومباحثات نزع السلاح النووي، فإن الواقع الجديد من وجهة نظر موسكو من المرجح أن يتمحور حول اعتقادها بأن قوتها الحقيقية الوحيدة تكمن في القوى النووية الروسية: وأنها باتت تتمتع بأهمية أكثر من أي وقت مضى من أجل الحفاظ على الدولة، أو على الأقل الحفاظ على النظام السياسي الحالي الذي يحكم الدولة.
وينوِّه الكاتب في ختام تقريره إلى أن واشنطن ترى أن إظهار هذا الضُعف العسكري الروسي ينبغي أن يكون مطمئنًا فيما يتعلَّق بالتهديد العسكري الحقيقي الذي تُمثِّله موسكو لأوروبا، غير أن هذا الأمر يكشف في الوقت ذاته الحاجة إلى وضْع إستراتيجية مختلفة للأمن القومي، تلكم الإستراتيجية التي لا تنظر إلى روسيا بوصفها مكافئًا عسكريًّا، والتي لا تُغلق جميع الأبواب في وجه فلاديمير بوتين (حتى لا يتصرف برعونة).