الرئيسة \  تقارير  \  نيولاينز: بروباجندا الحرب.. هل الغزو الروسي لأوكرانيا وشيك فعلًا؟

نيولاينز: بروباجندا الحرب.. هل الغزو الروسي لأوكرانيا وشيك فعلًا؟

22.02.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الاثنين 21/2/2022
نشرت مجلة “نيولاينز” تقريرًا يستعرض تداعيات تغطية وسائل الإعلام الغربي لغزو موسكو لكييف. وخلُص التقرير الذي أعدَّه أوين ماثيوز، مدير مكتب مجلة “نيوزويك” في موسكو، ومايكل وييس، مدير الأخبار في المجلة “نيولاينز” الأمريكية، إلى أن تهديد روسيا بإعادة غزو أوكرانيا أصبح حقيقيًّا تمامًا، ولكن هل يساعد الغرب، وخاصة وسائل الإعلام، كييف أم يضرَّها؟
رسائل غير مُتوقَّعَة
يطرح الكاتبان في مستهل تقريرهما سؤالًا: كيف أعدَّ التلفزيون الحكومي الروسي، الذي يُحكِم الكرملين سيطرته عليه، الشعبَ عشية الغزو الشامل لأوكرانيا الذي تنبأت به واشنطن قبل ثلاثة أيام فقط؟
ويجيب الكاتبان: افتتحت القناة الأولى النشرة المسائية بفقرة مطوَّلة عن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، ثمَّ تلاها تقارير عن اللقاء الذي جمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز، ثمَّ نبذة صغيرة عن هوس الغرب بالحرب (ضد أوكرانيا). وهذه ليست الرسائل الإعلامية التي قد تتوقعها من بلد أوشك على شنِّ غزو برِّي كبير في أوروبا الشرقية.
وعلى الجانب الآخر من ساحة المعركة المتوقَّعَة، استعدَّ الأوكرانيون لأخذ عطلة رسمية جديدة من نوعها أعلنها رئيسهم، فولوديمير زيلينسكي، يوم الاثنين الماضي، احتفاءً بتاريخ الغزو المرتقب، فما هي نصيحة زيلينسكي لشعبه أثناء احتفالهم بيوم الوحدة الوطنية الجديد؟
ويجيب الكاتبان: قال لهم زيلينسكي: ارفعوا مزيدًا من الأعلام واحتفلوا باستقلال أوكرانيا. ولا تنسوا أن تنشدوا النشيد الوطني في تمام الساعة العاشرة صباحًا. ويتساءل التقرير ساخرًا، ماذا حدث لدعوة البقاء في المنازل أو إجلاء النساء والأطفال؟
يضيف التقرير: وبعد مرور أشهر على حشد القوات الروسية عند الحدود الأوكرانية، أصبح الأوكرانيون في نهاية المطاف لديهم ما يحتفلون به، وهو الصور التي نشرتها وزارة الدفاع الروسية وأظهرت أن بعض الدبابات تتدفَّق إلى شاحنات تحميل وتغادر عائدةً أدراجها إلى قواعدها الأصلية، على الرغم من عدم تأكيد مصادر مستقلة أو حكومات غربية لوجود انسحاب حقيقي للقوات الروسية حتى الآن.
وفي الحقيقة تُتَّهم روسيا الآن بأنها عززت وجودها بـ7 آلاف جندي ف يالمنطقة الحدودية. وبعد اللقاء الذي جمع بين شولتز وبوتين، أعلن المستشار الألماني من جانبه أن هناك مجالًا للتفاوض بشأن مطالب الكرملين بإنهاء توسُّع حلف الناتو واستمرار المباحثات. وتراجع شولتز بالطبع عن التقارير التي تشير إلى أنه فعل أي شيء من هذا القبيل، بحسب التقرير.
وبعد مرور سنوات من المحاولة، أطلق الكرملين أخيرًا تكتيك الكماشة أو الضربة المزدوجة في حرب المعلومات. إذ تتظاهر موسكو بأنها ناضجة ودبلوماسية رصينة، وتُعرِب عن مخاوف أمنية مشروعة. وفي الوقت ذاته، يُدخِل الغرب، لا سيما وسائل الإعلام الغربية، نفسه في حالة شبه هستيرية فيما يتعلق بمدى خطورة روسيا وشراستها وفتكها.
وعلى مدى أسابيع امتلأت الصحف والقنوات التلفزيونية الغربية بصور الدبابات والسفن الحربية وأسلحة المدفعية الروسية المخيفة التي تطلق النار بصورة متواصلة، وإذا تفحَّصتَ مصادر الصور، فستجد أن وزارة الدفاع الروسية هي مصدر معظم هذه الصور، بحسب التقرير. ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) أصدرت الحكومتان الأمريكية والبريطانية تحذيراتٍ شديدة على نحو متزايد من أن بوتين يستعد لشنِّ هجوم وشيك وواسع النطاق على أوكرانيا.
وطوال تلك المدة نفى بوتين ووزير الخارجية الروسي المخضرم سيرجي لافروف نفيًا قاطعًا أن موسكو ستفعل أي شيء من هذا القبيل، كما لم يوجِّه الكرملين أي تهديداتٍ أو يصدر أي مطالب تتعلق بأوكرانيا نفسها. وما كان لموسكو أن تتخذ مثل هذا الإجراء، لأن الغرب يضطلع بهذه المهمة البليغة التي تتمثَّل في بثِّ حقيقة القوة العسكرية الروسية بدلًا من روسيا! بحسب التقرير.
وفي الوقت ذاته، سيطرت النخبة المثقَّفة الغربية على الأعمدة الصحافية لتؤدي دور محامي الدفاع عن موسكو في إعادة فتح باب الجدال والنزاع بشأن نهاية الحرب الباردة (انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي) وزعموا أن نشوة انتصار الفائز دفعتنا إلى هذا المستنقع الذي كان يمكن تفاديه في المقام الأول، بحسب تعبير الكاتبين.
يشير التقرير إلى ما قاله لينين ذات يوم عن “أغبياء مفيدين” بين اليساريين الغربيين الذين ساعدوا من غير قصد في استيلاء البلاشفة على السلطة. وتعلَّم بوتين الدرس، وهو أن الأعداء ربما كانوا مفيدين جدًّا. فيما ظل بوتين غامضًا بشأن نواياه، وتحدثت وكالات الاستخبارات والحكومات الغربية عن خططٍ مفترضة للهجوم بصواريخ تسقط على رأس كييف وأنظمة عميلة (لصالح روسيا) يتم تنصيبها تحت تهديد السلاح.
48 ساعة قبل اندلاع الحرب
وفي بريطانيا، بحسب التقرير، نشرت صحيفة ديلي ميل العنوان الرئيس “48 ساعة قبل اندلاع الحرب”، وقدَّم قسم الجرافيك الماهر في الصحيفة مجموعة من الخرائط المُشار إليها بأسهم حمراء كبيرة توضح طرق الغزو المحتملة للإستراتيجيين الجالسين على كراسيهم في أوساط قرائها. ويعلق الكاتبات ساخرين: بات الجميع الآن خبراء إستراتيجيين في شؤون الحرب وإلقاء القنابل والخطط الحربية!
وفيما يخص صحف عديدة مؤيدة لحزب المحافظين في بريطانيا، كانت الأزمة بمثابة ملهاة مرحَّب بها عن ما يحدث في 10 داونينج ستريت (مقر رئاسة الوزراء)، حيث يقاتل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من أجل مستقبله السياسي. يقول محرر كبير في إحدى مجلات الفضائح البريطانية: “على الأرجح أن الحديث عن الغزو محض هراء.. ولكن بوريس يريدنا أن نتحدث ونتحدث عن ذلك”.
والنتيجة: تصعيد في نشر التقارير الإخبارية التي تتناول قسوة الوضع وخطورته، مرفق بصورٍ لأوكرانيين شُجعان يتدربون على استخدام بنادق كلاشينكوف خشبية!
وعلى الجانب الآخر من الطيف السياسي، نشرت صحيفة “الجارديان” ذات الميول اليسارية أخبارًا عن “تزايد التوترات” على الحدود بين موسكو وكييف لمدة أسبوعين. وقدَّمت الجريدة تقاريرًا إخبارية تشير إلى أن الحياة تستمر في وضعها المعتاد في كييف، وإيراز شعور مسؤولي الأمن الأوكرانيين بالإحباط والتشكيك إزاء التنبؤات الغربية بالغزو الروسي. غير أن تلك التقارير لم تغيِّر الرسالة التحريرية العامة لدى الصحيفة بأن الحرب باتت شبه مؤكَّدة، بحسب التقرير.
قراءة إعلامية أمريكية
ويؤكد التقرير أن الصحافة الأمريكية بذلت ما بوسعها عندما واجهت أزمة في أرض بعيدة لا تفهمها ولا تحاول أن تفهمها: إذ احتفظت بكل مثقال ذرة من المعلومات الاستخبارية التي تمرِّرها إليها مصادر حكومية مجهولة الهوية بينما تقذف بكبار مراسليها ليتابعوا الأحدث ويترقبوا سقوط السماء فوق رؤوس الناس في كييف. وقد ثبَّتت وكالة أنباء رويترز كاميرا بث مباشر موجَّهة إلى ميدان “إندبندانس سكوير” الشهير في كييف، ومن المفترض أن “رويترز” تريد أن تلتقط لحظة فَقْد العاصمة الأوكرانية لاستقلالها.
وتمتَّعت صحيفة نيويورك تايمز بالمهارة الكافية على الأقل للاعتراف بالإستراتيجية الاستباقية التي وضعتها، بالأساس، إدارة بايدن، والتي تمثَّلت في الكشف عن المواد التي تحصل عليها بالسرعة ذاتها التي جُمِّعَت بها تقريبًا وتمريرها مباشرة إلى مراسلي الأمن القومي الذين ينتشون بهذه الأخبار.
وبعبارة أخرى، يتواصل الصحافيون تواصلًا إستراتيجيًا مع البيت الأبيض، بل ينسبون لأنفسهم الفضل فيما يتصورون أنها إنجازات استثنائية في مجال الاستخبارات المضادة. وأعلنت وكالة “سي إن إن”، “حصريًّا”، أن الجواسيس الروس (وفقًا لجواسيس أمريكيين) يشعرون بالإحباط الشديد بسبب نشر مخططاتهم التجسُّسية على أوكرانيا، وبذلك أحبطت وسائل إعلام مثل “سي إن إن” المساعي الروسية!
واعترف مسؤول استخباراتي أوروبي كبير أن واشنطن تستخدم بالفعل “السلطة الرابعة” (يُستخدَم هذا المصطلح للإشارة إلى الإعلام، لا سيما الصحافة، في محاولة لإبراز دوره المؤثر في نشر المعلومات) لتنفيذ سياسة الردع الخاصة بها. وذكر ذلك المصدر أن “الهدف يتمثَّل في إبلاغ الروس بأننا نعرف كل ما يجول بخاطرهم، ومن ثمَّ، كأننا نقول لهم لا تفكروا في هذا الأمر”. وأضاف المصدر: “تذكر أيضًا أن بوتين، بصفته ضابطًا سابقًا في جهاز الاستخبارات الروسية، مهووس بالاستخبارات، ولذلك من خلال تسريب أي مؤامرة افتراضية أو سيناريو غزو يفكر فيه، تكون الرسالة الضمنية هي أن نظامه مُعرَّض للخطر وأن رجاله غير جديرين بالثقة. وهذه إستراتيجية ذكية، تبث الارتياب وعدم اليقين في موسكو”.
تكلفة معايير الإعلام الأمريكي
وقبل أيام قليلة، أفادت تقارير غربية على نطاق واسع أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي أعلن، في حفل يوم الوحدة الوطنية، أن 16 فبراير (شباط) سيكون موعد الغزو. ولكنَّه لم يصرِّح بذلك. وما فعله زيلينسكي، هذا الكاتب الساخر الذي تحوَّل إلى سياسي، تماشيًا مع الحس الكوميدي الذي لازمه طوال مدة رئاسته والذي يفهمه الأوكرانيون بسهولة، هو أنه استهزأ بالتغطية الغربية المثيرة للحرب مع أن الأمر لا يحتمل ذلك.
وكان هذا الأمر، بطبيعة الحال، كافيًا لحث التغطية الغربية الأكثر إثارة على أن الاستخبارات الغربية لا بد أن تكون أخبرت زيلينسكي بأن يوم 16 فبراير هو يوم الغزو. وذكر أحد الضباط في جهاز الاستخبارات الأوكراني أن مصدر معلومات زيلينسكي الحقيقي يتمثَّل في “الإعلام الأمريكي”. وراوغت وسائل الإعلام ذاتها، من دون أن تكلِّف نفسها عناء توضيح هذا الأمر، مدعية أن زيلينسكي هو من ورَّط نفسه، بحسب التقرير.
وربما كان الأوكرانيون يمزحون، لكنهم غير مستمتعين بما يجري.
واتهم ديفيد أراخاميا، رئيس حزب “خادم الشعب” في البرلمان الأوكراني، سي إن إن ووول ستريت جورنال وبلومبرج بنشر أخبار كاذبة كانت أشد ضررًا من أي شيء لفَّقه أهم مناصري روسيا، وكبَّد أوكرانيا ذلك ما يتراوح بين 2 إلى 3 مليارات دولار في الشهر، بحسب أراخاميا.
وبدأ الصحافيون في الشبكات الإخبارية الأمريكية الكبرى يتهامسون، بحسب التقرير، حتى أن أحد المراسلين في إحدى القنوات الإخبارية أعرب عن شكوكه فيما إذا كان غزو روسيا لأوكرانيا وشيكًا بالفعل، وتساءل: هل إدارة بايدن تستخدمهم “للقيام بالأعمال القذرة نيابةً عنهم”.
أخبار حقيقية في أيدي جوقة غربية
يؤكد التقرير أن كل ما سبق لا يعني أن ما تناقلته وسائل الإعلام مساويًا للافتراءات الكاملة في “ملف العراق” والعروض المضللة التي قُدمت في الأمم المتحدة حول مخزون صدام حسين من أسلحة الدمار الشامل. فالأخبار الأساسية في هذا الحالة ليست مختلقة أو غير حقيقية.
ومن الواضح أن نشر 150 ألف جندي روسي مع معداتهم العسكرية على الحدود الأوكرانية، معزَّزة بشركات تكنولوجيا الأقمار الصناعية المستقلة، يوصل رسالة تعبر عن نية عدوانية تجاه أوكرانيا، وفقًا لما طرحه المحللون العسكريون الموثوقون. كما أن تفكير بوتين حول السيادة الأوكرانية المستقلة ليس سرًّا؛ إذ نشر في الصيف الماضي مقالًا مطولًا من سبعة آلاف كلمة حول هذا الموضوع، امتلأ بالتحريفات التاريخية والتأكيدات الشوفينية التي تدور في الأساس حول فكرة أن أوكرانيا وروسيا “شعب واحد”.
ولكن عندما يصدر عن واشنطن ولندن والمصادر الأمنية في الصحف تحذيرات مؤكدة بأن الحرب باتت وشيكة، يصبح على وسائل الإعلام أن تبث هذه الأخبار حتى وإن لم يحدث الغزو أو لم تأتِ الرياح تمامًا كما تشتهي التنبؤات.
وفيما يخص جونسون والرئيس جو بايدن، كان تهديد بوتين بغزو أوكرانيا فرصة للتدخل ومنع كارثة جيوسياسية وإنسانية. فمن الممكن أن تمتد ألسنة اللهب إلى خارج حدود أوكرانيا، في حال اندلعت الحرب، على صورة تدفق للاجئين أو حوادث عنف في دول أوروبية أخرى من دول الاتحاد الأوروبي أو الدول الأعضاء في حلف الناتو.
ولكن الأزمة أيضًا كانت فرصة واضحة لتعزيز العلاقات العامة؛ إذ سارع الزعيمان منذ اندلاع الأزمة لحشد الرأي العام الدولي والتحدث بحزم مهدِّدَين أسوأ ديكتاتور في العالم بعواقب وخيمة إذا أقدم على الغزو. وإذا سحب بوتين الزناد، فإن بإمكانهما القول حينها “لقد حذرناكم وفعلنا ما بوسعنا لإيقافه”. وإذا لم يفعل، يصبح بإمكانهما أن ينسبا الفضل لأنفسهما في إقناع بوتين بالتراجع. وكانت الحوافز السياسية لخلط قدرات بوتين مع نواياه قوية جدًّا.
وبالمثل، فإن غريزة القطيع عند الصحافة البريطانية والأمريكية والأوروبية للتعامل مع خطر الغزو على أنه حدث “محتمل” أو “وشيك” أو “حتمي” بالإجماع هو أمر مفهوم أيضًا، بحسب التقرير؛ إذ لا أحد يريد تفويت نشر النبأ المهم قبل حدوثه، ولذلك لا يمكن استبعاد الآراء وإن كانت من مجهولين خاصة عندما يتعامل الصحافيون المتنافسون مع كل هَمْهَمة على أنها كلام مقدس. لقد أرعب الغرب نفسه بنفسه على عكس الأوكرانيين الذين تعاملوا مع الأزمة بهدوء وسكينة.
ما الذي استفاده بوتين من كل هذا؟
يلفت التقرير إلى أن بوتين نال عدة امتيازات جرَّاء هذه الضجة أولها وهو الأهم، أنه لن يُتجاهل بعد اليوم. ومثل سلفه بوريس يلتسين، لطالما عَدَّ بوتين توسُّع الناتو باتجاه الشرق تهديدًا وجوديًّا للأمن الروسي. ولكن حتى اندلاع هذه الأزمة الأخيرة، عَدَّ الناتو روسيا أفقر وأضعف وأكثر عزلة من أن تكون قوة “إقليمية”، أو وفقًا لصياغة جون ماكين الفظَّة: هي “محطة للتزوُّد بالوقود تتظاهر بأنها دولة”.
وانظر إلى حكام الغرب من أولاف شولتز إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذين سارعوا في الذهاب إلى موسكو لإجراء محادثات سلام طارئة مع الحاكم “المستبد المنغلق” تحت ذريعة مخاوف جائحة كوفيد-19 الهائلة، في حين جلس بوتين وبينه وبين ماكرون طاولة طويلة جدًّا على نحو مثير للسخرية.
وكان بايدن قد بدأ ولايته بالتعهد بتحويل انتباه الولايات المتحدة بعيدًا عن أوروبا نحو الصين، وتحسين العلاقات مع روسيا. والآن عقد قمة مع بوتين وتعهَّد بعقد أخرى، كما أنه يتحدث بانتظام مع نظيره الروسي على الخط الساخن بين موسكو وواشنطن، ومع ذلك ألقى بايدن خطابًا رئاسيًّا، الأسبوع الماضي، حول الحرب الكارثية التي لم يزل من الممكن أن يطلقها العدو الجيوسياسي الرئيس لأمريكا.
والتساؤل حول ما قد تفعله أو لا تفعله روسيا الإنتقامية هو تشتيت كبير لجماعة قوية من صانعي السياسات الخارجية في البيت الأبيض، التي يقودها مستشار الأمن القومي جاك سوليفان. ويرى سوليفان أن الهيمنة العالمية الناشئة للصين تمثل تحديًا إستراتيجيًّا أكبر وأطول أمدًا للولايات المتحدة. ولكي يتفرغ سوليفان لمهامه، يريد أن يذهب الدب الروسي بعيدًا أو أن يدخل في مرحلة سبات عميق. ولذلك، يقال إن سوليفان هو الذي يدفع كييف لتقديم تنازلات لموسكو. وقال دبلوماسي أمريكي كبير سابق مقرَّب من إدارة بايدن: “لا أدري ما الذي يدور في خلد جاك سوليفان، لكنني أعلم أنه غاضب من بوتين”.
يمكن لبوتين أن يحقق بعض الانتصارات الصغيرة ذات الأهمية في هذه الأزمة. ففي البداية، استبعدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الفور إرسال أي دعم عسكري لأوكرانيا. ومع تصاعد دقَّات طبول الحرب، انسحب مدربو الناتو خوفًا من التورط في إطلاق نار محتمل مع روسيا، وهذا ليس انسحابًا بسيطًا.
وحتى قبل انضمام دول البلطيق إلى الحلف عام 2014، دُمجت مجموعة صغيرة من الجنود من جيوش الدول الأوروبية وجيش الولايات المتحدة في وحدات عسكرية محلية للمساعدة ليس فقط في تدريبهم وفقًا لمعايير الناتو، ولكن لضمان أن أي هجوم روسي قد يؤدي إلى سقوط ضحايا غربيين وتصعيد فوري.
خطط بوتين الإستراتيجية تنجح
يشير التقرير إلى أنه من المؤكد أن الالتزام المسبق الذي أعلنه بايدن بأن أي هجوم على أوكرانيا سيُعد بمثابة هجوم على الناتو جعل بوتين يقف وقفة للتفكير، ووضعه في موضع سيضطر فيه للمقامرة باحتمال الدخول في مواجهة شاملة مع كتلة عسكرية متفوقة جدًّا.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، اقترح الأوكرانيون على نحو شبه جاد مواصلة الزعماء الغربيين مجيئهم إلى البلاد؛ لأن بوتين لن يغامر بالقصف وإصابتهم عن طريق الخطأ.
وبدلًا من ذلك، حقق بوتين تقدمًا مهمًا في هدفه الإستراتيجي المتمثل في تغيير أهداف النقاش حول توسيع التحالف. وأُخطرت الهيمنة الكبرى في العالم بقيادة الولايات المتحدة أن أي تحركات أخرى لدمج أوكرانيا في مظلتها الأمنية سيؤدي إلى تدخل روسي “عسكري وفني” آخر. وحتى قبل أن يحدث ذلك أُخليت السفارة الأمريكية في كييف، ونُقلت إلى لفيف في غرب أوكرانيا، حيث يقال إن الدبلوماسيين يحرقون وثائق سرية قبل مغادرتهم البلاد تحسبًا لمصير يشبه مصير بنغازي أو كابول، وهو إجراء احترازي لم تتخذه السفارات الأوروبية.
وقد يكون الغرب متفقًا إلى حد ما حول التهديد بـ “عواقب وخيمة” إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا. وستتخذ هذه العواقب شكل العقوبات، مع أن لا أحد يعرف حقًا مدى شموليتها أو فاعليتها. وهل سيجري حقًا إفشال خط أنابيب نورد ستريم 2؟ وهل ستتعرض بنوك التجزئة، وشركات الطاقة، لعقوبات قطاعية في حال تحرّك خطوة “فقط” نحو دونباس؟
حتى الآن، جاء أكبر رد فعل للكرملين على الانتقام المقترح من الدول الغربية في صورة تهديد باقتلاع “لندنجراد” (اسم يُطلق على مدينة لندن وفقًا للتسمية الروسية)، ملاذ الروس من أفراد العصابات والأوليغارشية (رجال الأعمال في الجمهوريات السوفيتية السابقة الذين ربحوا أموال طائلة في فترة تفكك الاتحاد السوفيتي) والنشطاء، بمن فيهم عشيقة سيرجي لافروف نفسه التي اشترت ابنتها البالغة من العمر 21 عامًا شقة في منطقة كنسينجتون البريطانية بـ6 ملايين دولار، بحسب التقرير. وبريطانيا كانت قد اتخذت بعض الإجراءات المُشجِّعة في هذا الصدد وضيَّقت الآن شروط نظام “التأشيرات الذهبية” التي يستطيع بموجبها أي شخص استثمر ما يكفي من الأموال أن يستقر في البلاد.
إن إبعاد المليارات القذرة عن أسواق العقارات في كنسينجتون ومايفير هو مسعى جدير بالاهتمام بحد ذاته، إلا أنه يمكن ألا يكون له تأثير كبير على بوتين. إذ إن معظم الدائرة المقربة من الكرملين تخضع لعقوبات شخصية في أعقاب الاستيلاء على شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس. وكما قال السفير الروسي في السويد فيكتور تاتارينتسيف: “روسيا لا تهتم أبدًا للعقوبات”.
إخفاق أوروبي في الأزمة الروسية الأوكرانية
يلمح التقرير إلى أن الناتو يوافق تقريبًا على ما يجب فعله إذا غزا بوتين أوكرانيا، ولكن فيما يتعلق بتعميق العلاقات مع أوكرانيا، كشفت قعقعة سيف بوتين عن شروخ كبيرة في صرح الناتو. فتمثيل ألمانيا المكشوف بأنها تتضامن مع أوكرانيا كان مهينًا أكثر من كونه مقنعًا؛ إذ أن تقديم خوذات لأوكرانيا بدلًا عن الأسلحة يشبه ترك إكرامية قدرها دولار واحد على فاتورة بقيمة 100 دولار، فهي أسوأ من عدم تقديم إكرامية من الأساس.
ولطالما وضع الرئيس الفرنسي الفلسفي والطموح نظريات حول “السيادة الأمنية” الأوروبية، لكنه هدم أفكاره العظيمة بنفسه عبر إظهار خواء هذا المفهوم عند وضعه حيز التنفيذ، بحسب التقرير. وحقق ماكرون ثلاثية نادرة في الدبلوماسية المكوكية: أولًا قد أثار غضب الأوكرانيين (والفنلنديين) بالحديث عن “فنلدة” كييف باعتبارها حلًّا محتملًا للأزمة (أي أن تصبح أوكرانيا مثل فنلندا التي حافظت على استقلالها في ظل الاتحاد السوفيتي بمنح الكرملين نفوذًا ضخمًا على سياساتها والالتزام بالحياد في الحرب الباردة)، ثم تعرَّض للإذلال من قبل الروس لإصراره على رفع دعوى ضد بوتين من أجل السلام، وهو ما لم يفعله.
وفيما يخص الأعضاء الجدد في الناتو مثل بولندا ودول البلطيق، بتاريخها الطويل مع الاحتلال الروسي والسوفييتي، كان تهديد بوتين للتعبئة بمثابة حجة متفهمة لتقويض انضمام أوكرانيا، أو على الأقل عدم التنازل عن شبر واحد إلى الشرق في مواجهة “متنمر مستبد” يعرفونه جيدًا.
لكن اللاعبين الأكثر تأثيرًا في بروكسيل يرون أن إدخال أوكرانيا إلى الحلف الآن أمر غير ممكن ولا مستحب. حتى أن زيلينسكي قال إن عضوية الناتو يمكن أن تكون مجرد “حلم” لأوكرانيا وأن “الابتزاز” الروسي ينجح في بقائه هكذا. وأظهر استطلاع للرأي أُجري في أوكرانيا في ديسمبر (كانون الأول) أن 54% يدعمون الانضمام للحلف، أي لم يكن هناك أغلبية ساحقة تدعم الانضمام. وفي حين أنه من غير الواضح هل تُزيد الأزمة الأخيرة من أصوات الداعمين للانضمام أم لا، لكن من الواضح أن هناك أقلية من الأوكرانيين تعارض الفكرة تمامًا.
التحذيرات الغربية في خدمة الكرملين
وعندما شرح بوتين سبب حشد القوات الروسية لأول مرة في نوفمبر، قال إن هذا مهمًا لمواصلة الضغط “لأطول فترة ممكنة”. ومنذ ذلك الحين، أصدرت الولايات المتحدة تحذيراتٍ أشد حول ما تنوي القيام به، كان آخرها “أن من احتل شبه جزيرة القرم سيسعى ليحكم أوكرانيا بأكملها”.
إلا أن ما كان يلزم لإفراغ هذه التحذيرات من مضمونها هو أن يعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو عن انسحاب بعض القوات الروسية من الحدود مع أوكرانيا، دون سحب أي منها على نحو يمكن التحقق منه. وهذه القوات حتى وإن غادرت يمكن أن تعود إلى مواقعها في غضون أيام. ولن يكون غيابها عاملًا مهمًا فيما إذا كانت القوات الحامية التي هي في “موقع الهجوم” ستذهب إلى الحرب أم لا. ومع ذلك تركزت العناوين الرئيسة في الأخبار على عناوين من نوع “48 ساعة قبل اندلاع الحرب” إلى “هل هناك احتمالية لوقف التصعيد؟”. يجب أن تعرف وسائل الإعلام الغربية كيف هي الحال عندما تعمل لصالح قسم الاتصالات الإستراتيجية في الكرملين.
والخاسر الحقيقي الوحيد في هذا هي أوكرانيا. فقد أدى الحديث عن غزو وشيك، والذي أعقبه إخلاء السفارات الغربية وتحذيرات لجميع المواطنين الغربيين بمغادرة البلاد، إلى انهيار العملة وأسواق المال في البلاد وقلة الاستثمارات الأجنبية. وفرضت شركات التأمين زيادات للتحليق فوق أوكرانيا وبذلك، حُرِمت البلاد فعليًّا من جزء كبير من طيرانها المدني.
وحذَّر زيلينسكي مرارًا وتكرارًا أن التحذير الغربي بهذا الشكل غير مبرَّر. وقال في مؤتمر صحافي حضره صحافيون أجانب الشهر الماضي: إنه إذا كان الغرب يريد حقًا مساعدة أوكرانيا، يجب على الولايات المتحدة على وجه الخصوص التخفيف من حدة الحديث عن الكارثة.
الإعلام الأمريكي والمصداقية
ونوَّه التقرير إلى أن صفة الأمانة والدقة في الحكومة والصحافة في ربوع الولايات المتحدة في أقل مستوياتها. وأولئك الذين ربما صدَّقوا ذات يوم ما قاله الصحافيون أو أخذوا ما يقوله مراسلو الأخبار على محمل الجد يتعاملون معهم الآن باطراد على أنهم صحافة إثارة أو انتهازيون.
بيد أنه على نطاق أوسع لم يزل يجب على الناس التفكير في كيفية التعامل مع الاندفاع الرقمي للمعلومات الخاطئة والمضللة. وهذه المعلومات توصف بأنها جائحة عالمية ثانية تهدد حياتنا، ولكن إلى الآن يتم التعامل معها بإجراءات تقييدية للسلامة العامة، لكنها جهود مصطنعة ولم تُخفِّف حقًا من خطر هذه المعلومات، بحسب التقرير.
وطوال الوقت كان مذيعو الدولة الروسية في الداخل ومَنْ يمثلونها في الخارج، سواء من المدونات، أو البرامج الإذاعية، أو على “يوتيوب”، أو شبكة “آر تي”، أو “سبوتنيك”، سعيدين بهذا الارتباك والتناقض الغربي.
ويختم الكاتبان بالتساؤل: حسنًا، ماذا لو لم تندلع الحرب بعد كل هذا؟ أو ماذا لو اندلعت، ولكن ليس بالطريقة التي تحدثت عنها الصحافة الغربية، أي بإمطار كييف بالصواريخ وقطع رؤوس الحكومة الأوكرانية واحتلال المدن الأوكرانية الكبرى؟
وماذا لو اتخذت شكلًا أكثر سرية من الاستفزازات المنسَّقة التي يصعب تصنيفها، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية، أو الأعمال الإرهابية أو اعتداءات محدودة عبر الحدود تنتهي بالسرعة نفسها التي تبدأ بها؟ بمعنى آخر تصعيد للحرب التي تخوضها أوكرانيا بالفعل منذ ثماني سنوات.
هل سيُنظر إلى ما فعلته الصحافة الغربية على أنه مأساة أم انفراجة أم خيبة أمل؟