الرئيسة \  تقارير  \  نيويورك تايمز  : بريطانيا والحلم بالمستقبل من جديد

نيويورك تايمز  : بريطانيا والحلم بالمستقبل من جديد

19.09.2022
هاري كونزرو


هاري كونزرو
الشرق الاوسط
الاحد 18/9/2022
على مكتبي، أحتفظ بعملة فضية ممسوحة السطح، كان عليَّ أن أبحث عنها في صندوق لأجدها. كانت قطعة العملة هذه قد أعطيت لي عام 1977 (كانت هناك قطعة عملة لكل طفل في مدرستي الابتدائية البريطانية) وذلك لإحياء ذكرى اليوبيل الفضي للملكة إليزابيث الثانية. كنت في السابعة من عمري، وكانت قد تولت العرش لمدة 25 عاماً. وتبدو ذكرياتي عن احتفالات اليوبيل مشتتة ومجزأة لي، مجرد صور قليلة لقطع الكعك، وأعلام الاتحاد البلاستيكية.
في وقت لاحق، تلقيت عملة أخرى احتفالاً بزواج الأمير تشارلز والليدي ديانا سبنسر. وكل بضع سنوات طوال حياتي، كانت هناك ذكرى سنوية أخرى، أو حفل زفاف، أو أخيراً فضيحة ترد في صحيفة شعبية، تذكرني بدور النظام الملكي في شيء ما. ويشير المعلقون إلى مثل هذه المناسبات باعتبارها “حياة الأمة”.
وتكتب وفاة الملكة إليزابيث عن عمر يناهز 96 عاماً سطر النهاية، في أطول فترة حكم في التاريخ البريطاني، وتأتي في وقت تبدو فيه حياة الأمة –ومستقبلها- محاطة بالشكوك.
وكان آخر ظهور علني للملكة عندما استقبلت رئيس الوزراء الرابع خلال سبع سنوات. وأدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى زعزعة استقرار علاقات بريطانيا مع أقرب جيرانها. وتركت أزمة جائحة فيروس “كوفيد” ندوباً عميقة، وبلغ التضخم أعلى مستوياته في 40 عاماً. ومع اقتراب فصل الشتاء، يبدو أن أزمة الطاقة ستؤدي إلى إفقار عديد من الأسر البريطانية.
عام 1978، طُلب من الشاعر صاحب التوجهات شديدة المحافظة، فيليب لاركين، أن يكتب بيتاً شعرياً في ذكرى اليوبيل. وأجاب برباعية:
في الأوقات التي لم يصمد فيها شيء...
وإنما ساء أو ازداد غرابة...
ظل هناك خير واحد مستمر:
هي لم تتغير...
من المثير للاهتمام بالنسبة لي، أنه حتى ذلك الحين، كانت القيمة النفسية للملكة عند البلد الذي حكمته تكمن في الاستمرارية. ومنذ تدشين ما أطلق عليه المتفائلون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية “العصر الإليزابيثي الجديد” في عام 1952، حدثت تغييرات اجتماعية كبرى في البلاد.
مثل عشرينات القرن الحالي، اتسمت السبعينات بقدر كبير من الصعوبات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية والشعور بالتراجع الوطني. وشعر كثيرون، مثل لاركين، بأن البلاد تزداد سوءاً و”تزداد غرابة”، في إشارة لوجود المهاجرين من المستعمرات السابقة وأطفالهم من الجيل الثاني. في ذلك الوقت، كنا نقف في طابور الصباح نرفع عملاتنا الفضية بأصابعنا، ونردد النشيد الوطني مع الآخرين.
في ذلك الوقت، كما هي الحال الآن، كان كثير من البريطانيين يشعرون بالحزن على العظمة الإمبراطورية المفقودة. وبالنسبة لهم، فإن عظمة الملكية ووجود إليزابيث لاعبة رئيسية، كانا بمنزلة بلسم للآلام التي يسببها عالم متغير.
ولطالما أدركت النخبة البريطانية أن الملكية بمنزلة شاشة يعكس عليها الناس خيالاتهم الخاصة، وكان أعظم ما وفرته الملكة إليزابيث باعتبارها ملكة، أنها كانت أشبه بورقة بيضاء. وكانت تحب الكلاب والخيول، ونادراً ما تعبر عن المشاعر القوية. وبدت كأنها تقبل أن دورها هو أن تُعرض عليها الأشياء، أشياء كثيرة للغاية: مصانع وسفن ودبابات وعادات محلية وأنواع الجبن، والطريقة الصحيحة لربط الثوب التقليدي، وكذلك أن تتلقى باقات من الزهور من فتيات صغيرات ينحنين أمامها. وفي المقابل، لا تظهر أبداً الملل أو الانزعاج، ما كان بالتأكيد دوراً عاماً مملاً.
وعملت الملكة بمنزلة جسر بين عصور الاستعمار وما بعد الاستعمار. إلا أنه بالنسبة لأولئك –منا- الذين لديهم علاقة معقدة بالماضي الإمبراطوري لبريطانيا، فإن الاستمرارية التي تمثلها إليزابيث لم تكن خيراً مطلقاً. كان جانب والدي من عائلتنا مؤلفاً من قوميين هنود مخلصين، عملوا من أجل إنهاء الحكم الإمبراطوري عام 1947. ومثل عديد من الأشخاص الآخرين حول العالم الذين قاتلت عائلاتهم الإمبراطورية البريطانية، أرفض أساطير هذه الإمبراطورية عن الإحسان والتنوير.
كانت إليزابيث ملكة عندما أقدم الضباط البريطانيون على تعذيب الكينيين خلال انتفاضة ماو ماو. وكانت ملكة عندما أطلق الجنود النار على المدنيين في آيرلندا الشمالية. وأمضت حياتها تبتسم وتلوح في وجوه حشود السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم، وبدت كأنها واحداً من الأشباح الحية الممثلة لنظام جشع ومتعطش للدماء. طوال تلك الحياة، كانت وسائل الإعلام البريطانية تتحدَّث بحماس عن الجولات الملكية في بلدان الكومنولث المستقلة حديثاً، وركزت على الرقصات الغريبة التي جرى أداؤها أمام الملكة.
وآمل أنه مع رحيل إليزابيث، قد يصبح من الأسهل على البريطانيين إدراك عدم صحة الاعتماد على الحنين الإمبراطوري، كمصدر للشعور باحترام وتقدير الذات. وعلى الرغم من تعهده بمواصلة إرث والدته، فإن الملك الجديد تشارلز الثالث سيجابه صعوبة شديدة في العمل كشاشة فارغة، تعكس إسقاطات شعبه.
جدير بالذكر هنا أن تشارلز على عكس والدته، من المعروف أنه رجل صاحب آراء ومواقف محددة. وبسبب مذكراته “العنكبوت الأسود”، والرسائل المكتوبة بخط اليد، والمذكرات التي قدمها لوزراء الحكومة حول موضوعات من الزراعة إلى الهندسة المعمارية، ثارت مخاوف من أنه -بصفته حاكماً- سوف يميل إلى تجاوز الحدود الدستورية الصارمة للنظام الملكي، والتورط في السياسة.
في الواقع، يتوج تشارلز في عصر تدقيق إعلامي غير مسبوق، وكانت حياته الخاصة بالفعل وقوداً لعقود من النميمة العامة. وعلى عكس والدته، لا يمثل استمرارية مع العهد الإمبراطوري.
بطبيعة الحال، كان هناك دوماً تقليد مناهض للملكية داخل بريطانيا. ومقابل كل بريطاني يعتقد أن حجر الأساس للأمة هو النظام الملكي والتسلسل الهرمي الذي يقوم عليه، هناك آخر سيذكرك بأن آل ويندسور غيروا اسمهم من الألماني ساكس- كوبرغ وغوتا، فقط خلال فترة الحرب العالمية الأولى.
وبينما أنا جالس أقلب العملة المعدنية على مكتبي، آمل أنه مع وفاة إليزابيث الثانية التي اضطلعت بواجبات الماضي على نحو جيد، أن يبدأ رعاياها في الحلم بالمستقبل من جديد.
*روائي وصحافي بريطاني
* خدمة “نيويورك تايمز”