الرئيسة \  تقارير  \  نيويورك تايمز: التغيير الدستوري الراديكالي الذي تحتاج إليه بريطانيا

نيويورك تايمز: التغيير الدستوري الراديكالي الذي تحتاج إليه بريطانيا

20.09.2022
ليندا كولي


ليندا كولي
الشرق الاوسط
الاثنين 19/9/2022
منذ ما يربو على القرن بقليل، حاول ليتون ستراشي، الأديب المرموق بـ”جماعة بلومزبري” الأدبية بلندن، دراسة تأثير وفاة الملكة فيكتوريا. فقد نجحت الملكة فيكتوريا في حكمها الذي دام 63 عاماً في أن تصبح “مألوفة” وقريبة من الجميع بدرجة كبيرة، لتحتل “مكانة متميزة لا تُنسى”، حسب تعبير ستراتشي. وبالتالي، عندما توفيت فيكتوريا في عام 1901 شعر الناس في العالم كله، وليس فقط في المملكة المتحدة، بأن “ما جرى كان شيئاً خارقاً لناموس الطبيعة وقوانين الكون”، لا لشيء إلا لأنهم اعتادوا على وجودها منذ أمد طويل.
الشيء نفسه ينطبق على وفاة الملكة إليزابيث الثانية. فكلتا الملكتين جاءت إلى عرش بريطانيا في سن صغيرة، وإن كانت إليزابيث تفوقت على فيكتوريا في طول العمر، حيث استمر بقاء إليزابيث على العرش لأكثر من 70 عاماً. كلتاهما كانت رمزاً عالمياً وليس محلياً، وحملت التاج لزمن طويل لدرجة أن الكثيرين شعروا كأنهما ستخلَّدان.
ورغم كل أوجه التشابه، فإن وضع بريطانيا الحالي والفترة التي تُوفيت فيها فيكتوريا تشابها بدرجة كبيرة وهائلة. فبحلول عام 1901، كانت بريطانيا تميل بالفعل إلى الانحدار، لكن نظامها البحري، والمالي، والإمبراطوري، والتجاري ظل الأكبر في العالم. وفي الوقت الحالي، تضاءلت مصادر القوة العالمية وسبل الوصول إليها. علاوة على ذلك، فإن بعض الأعمال الداخلية لهذا النظام السياسي بات في حالة سيئة ومثيرة للجدل بشكل تدريجي.
خلف واجهة من الكمال والاحترافية المطلقة، شهد النصف الثاني من عهد إليزابيث الثانية ارتفاعاً ملموساً في حالة عدم الرضا عن أعمال الحكومة بين سكان أكثر تنوعاً، وأقل قبولاً بأحوالهم. إذن، هل يمكن لوفاة الملكة، وانضمام تشارلز الثالث الأقل شعبية، أن يؤديا إلى زيادة في مستوى الاضطرابات، وإلى ضغوط لا يمكن وقفها من أجل تغيير دستوري جذري إلى أن يجري وضع دستور بريطاني جديد؟
بدرجة قد لا يكون معترفاً بها دائماً، تسارع معدل التغيير السياسي في المملكة المتحدة بعض الوقت، وكان أكثر وضوحاً في تغيير الشخصيات. فعندما عيّنت الملكة السيدة ليز تراس رسمياً رئيسةً للوزراء قبل وفاتها بيومين، أصبحت ثالث امرأة تتولى هذا المنصب. ومجلس الوزراء الجديد الذي ترأسه تراس هو الآخر محافظ للغاية، وفي بعض النواحي متنوع بشكل غير مسبوق، حيث تشغل النساء والمسؤولون من أصول أفريقية أو آسيوية أربعة مناصب وزارية رفيعة المستوى. كما شهدت مؤسسات الحكومة تغييرات واسعة. منذ عام 2009 باتت لدى البلاد محكمة عليا، ولدى كل من اسكوتلندا وويلز الآن برلماناهما الخاصان، بينما تمتلك آيرلندا الشمالية جمعية خاصة بها تتمتع بسلطات تشريعية واسعة.
قد يبدو الأمر مثيراً للإعجاب حتى الآن. لكن الواقع يقول إن التغيير كان جزئياً وفي بعض الأحيان لم يجر التفكير فيه بشكل كافٍ. صحيح أن السلطة قد جرى نقلها بعيداً عن لندن، لكن نقلها لم يتم بشكل كافٍ أو منهجي. على عكس ويلز واسكوتلندا وآيرلندا الشمالية، على سبيل المثال، فإن إنجلترا -وهي أكبر المكونات الأربعة للمملكة المتحدة- ليس لديها تجمع منفصل خاص بها، وقد ساعد ذلك في تأجيج مشاعر الاستياء والقومية الإنجليزية.
وفي الوقت نفسه، لم ينجح إحياء البرلمان في إدنبره حتى الآن في نزع فتيل المشاعر الانفصالية في اسكوتلندا، في حين أن برلمان آيرلندا الشمالية متوقف حالياً والمشاعر القومية في ويلز في تصاعد.
الأهم من ذلك أنه لم يكن هناك إصلاح منهجي لبرلمان وستمنستر نفسه. كما لم يجر اتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة وتنظيم السلطة المتنامية لرؤساء الوزراء البريطانيين الذين أصبحوا أكثر رئاسية من حيث الأسلوب والطموح، خصوصاً منذ الفترة الطويلة التي قضتها تلك المرأة الأخرى الرائعة في المنصب، مارغريت تاتشر (1979 - 1990).
كل هذه الانقسامات وحالات عدم الرضا والتعديلات المدروسة جزئياً قد زاد من توترها استفتاء “بريكست” وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، والذي أدى إلى تفاقم الانقسامات داخل بريطانيا، بدلاً من حلها -كما كان البعض يأمل.
في الاستفتاء، كانت هناك اختلافات ملحوظة في التصويت بين الشباب وكبار السن، وذوي التعليم العالي والأقل تعليماً. ومن الواضح أن غالبية الناخبين في اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية، إلى جانب غالبية الناخبين في لندن والمدن الإنجليزية الكبرى، أعربوا عن رغبتهم في البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وبأغلبية محدودة، رغم ذلك، وبسبب التأثير الكبير للمناطق الريفية والمجتمعات الساحلية المكتئبة، أدى الاستفتاء إلى مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي. تظل الانقسامات الناجمة عن ذلك عنيفة، كما هو الحال مع التداعيات الاقتصادية لبريطانيا جراء خروجها من أكبر وأقرب سوق للسلع.
لذا، هل يمكن أن تؤدي الصدمة التي يتعرض لها النظام المصاحب لوفاة الملكة التي حكمت لفترة طويلة إلى ظهور تفكير جديد ومستمر بشأن الأعمال الداخلية للمملكة المتحدة؟ هل يمكن أن يكون هذا حافزاً لما سيكون، تاريخياً، ثاني دستور بريطاني مكتوب؟ ليس بالضرورة.
وبعيداً عن كل هذه المشكلات، فإن النظام الملكي البريطاني هو منظمة مهنية للغاية وصعبة ومرنة. علاوة على ذلك، فإن الملك الجديد تشارلز الثالث يبلغ من العمر 73 عاماً. ويُفترض أحياناً أن يمثل هذا نقطة ضعف، حيث إنه تخطى منتصف العمر وتلاشت النظرات الثاقبة لتحل محلها الأوهام، وهو ما يمثل أخطر مرحلة سنية. لكن البعض الآخر قد يرى ذلك بمنظور مختلف، باعتبار أن الشيخوخة بالنسبة للملك تزيده تبجيلاً واحتراماً من الجميع.
الأهم من ذلك، أن استحداث دستور جديد تماماً كان نتيجة بعض الصدمات الوجودية الهائلة: حرب ثورية ناجحة كما في الحالة الأميركية، أو حرب أهلية مريرة، أو غزو أو احتلال أو هزيمة من دولة أجنبية. جاء أول دستور مكتوب لبريطانيا على يد الحكومة عام 1653 ويحمل النمط ذاته.
جاء وضع ذلك الدستور بعد إعدام الملك، ونشوب حرب أهلية وبعد تأسيس الجمهورية بوقت قصير. إن الخلافة السلمية لوريث العرش بالوراثة، وهو ما حدث للتوّ في بريطانيا، لا يعد تغييراً كبيراً في نفس المسار. لكنه قد يكون مساهمة صغيرة، وصولاً إلى تغييرات أخرى قد تكون وجودية بالفعل.
إذا دعت اسكوتلندا في المستقبل القريب مرة أخرى للتصويت من أجل الاستقلال، وإذا أعلن غالبية الناخبين الآيرلنديين الشماليين عن رغبتهم في الانضمام إلى بقية جزيرة آيرلندا، فإن المملكة المتحدة ستتقلص لتضم إنجلترا وويلز فقط، وإن كانت ويلز باتت بالفعل أكثر اضطراباً. في حالة حدوث مثل هذا التفكك للاتحاد، خصوصاً إذا حدث على خلفية أزمة اقتصادية مطولة، فقد يبدو إعادة التفكير الدستوري الجذري حلاً ضرورياً، وليس فكراً غريباً يمثل تهديداً.
* أستاذة التاريخ في جامعة برنستون
* خدمة “نيويورك تايمز”