الرئيسة \  تقارير  \  “نيويورك تايمز” :روسيا ستعيد صياغة نفسها

“نيويورك تايمز” :روسيا ستعيد صياغة نفسها

24.03.2022
فاريا بورتسوفا


فاريا بورتسوفا
الشرق الاوسط
الاربعاء 23/3/2022
عندما ظهر أول مطعم “ماكدونالدز” في الاتحاد السوفياتي عام 1990، اصطحب والداي أختي البالغة من العمر 9 أشهر فقط وانتظرا في طابور لساعات في قلب الشتاء الروسي القوي حتى يتمكنا من تذوق أول وجبة “بيغ ماك” والبطاطا المقلية الشهيرة. وامتد طابور المنتظرين حول أرجاء ساحة بوشكين الشهيرة في موسكو. وذكرت تقارير أن 30.000 شخص حضروا يوم الافتتاح وحده.
كانت هذه لحظة مثيرة للغاية، ومثلما أخبرني والداي كان ذلك بمثابة طعم الحرية الأول، ولمحة عما يمكن أن يكون عليه تناول الطعام بالخارج فيما وراء الستار الحديدي، رمز التغيير الأكبر القادم.
وبعد أقل عن عامين، تلاشى الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي فتح الباب أمام جميع أنواع الحريات الديمقراطية. وكانت روسيا التي نشأتُ فيها تعرض رسوماً كاريكاتورية مدبلجة من ديزني ومسلسلات أرجنتينية.
وأصبح الجميع فجأة من معجبي نجم هوليوود ليوناردو دي كابريو. واعتدت ارتياد الحفلات الموسيقية واشتريت الملصقات وأشرطة الكاسيت، وعلى عكس والديّ، لم أضطر إلى ارتداء شارة خماسية النجمة تحمل صورة فلاديمير لينين على صدري كل يوم في المدرسة.
بطبيعة الحال، لم يخلُ الأمر من سلبيات، فمع الحريات الجديدة ظهرت تحديات جديدة؛ أزمة اقتصادية عميقة، وزيادة حادة في التفاوتات وغياب المساواة وانفجار في معدلات الجريمة المنظمة. وبعد عقود كانت الدولة تملي فيها كل قرار تقريباً على رعاياها، من السكن إلى مكان العمل إلى الذوق في الأفلام والموسيقى، حمل العصر الجديد معه حالة من عدم اليقين والفوضى.
ومع ذلك، شعرت أنني محظوظة لأنني نشأت في مجتمع نابض بالحياة ومزدهر. بالتأكيد لم أرغب في العودة إلى العهد السوفياتي، خاصة أن القصص التي أخبرتني بها عائلتي كانت قاتمة.
وتحدث والداي عن الأدب المحظور (أي شيء يُنظر إليه باعتباره مخالفاً للقيم السوفياتية أو كتبه كتّاب مهاجرون فروا من روسيا السوفياتية)، وصعوبات السفر (الذي كان مستحيلاً من دون مباركة لجنة الحزب)، والنقص المستمر في المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية. ومع أنني أصغر عن أن أتذكر مثل هذه الأمور، فإن والداي كانا يصطفان لساعات للحصول على أثاث نادر يظهر في المتاجر كل بضعة أشهر.
عام 1990، عندما كانت المواد الاستهلاكية متوفرة على نحو متقطع، اشترت لنا أمي زوجاً من الجوارب الضيقة تناسب كل عمر حتى 16 عاماً، لأنها افترضت أنها لن تكون متوفرة مع تقدمنا في العمر. وجرى فرض رقابة على الأفلام، وكذلك جرى تشويش المحطات الإذاعية الأجنبية.
من جانبي، كنت مفتونة بهذه القصص، لكنني شعرت أيضاً بالارتياح لأنني لم أعايشها قط. وكنت حريصة على اكتشاف العناصر البسيطة للحياة اليومية للشعب السوفياتي، وهي عناصر لم تدخل في كتب التاريخ: فيديو موسيقي منزلي منسي منذ زمن طويل أو صورة زفاف غير ملائمة أو منشور أو اختيارات غريبة في الأزياء. وقد بدأت في جمع بقايا الحقبة السوفياتية، والبحث في أشرطة فيديو قديمة وألبومات صور الأصدقاء ومقاطع من مجلات وأسواق السلع المستعملة الغامضة لجمع قطع تنتمي لبلد لم يعد له وجود.
عام 2016، أثناء إقامتي في سنغافورة، أنشأت حساب “سوفييت فيجوالز” عبر “تويتر”، حيث شاركت أرشيفي السوفياتي المؤقت مع العالم. وبدأ آخرون في المساهمة بصورهم ومقاطع الفيديو والقصص الشخصية الخاصة بهم، وأصبح المشروع بمثابة مستودع لماضينا المشترك. بجانب ذلك، أتاح ذلك فرصة للتفكير بشكل نقدي في المعايير الاجتماعية والثقافية في ذلك الوقت، مع الاعتراف بوحشية التركيبات الآيديولوجية للاتحاد السوفياتي وممارساته القمعية.
اليوم، دفعت “العملية العسكرية الخاصة”، مثلما أطلق عليها الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا، إلى وضع بلادي في حالة غريبةـ وعن حق، وذلك - وكما يتردد - في ضوء انتهاكات حقوق الإنسان من قبل القوات الروسية، والتجاهل الصريح للسيادة التي أطلق العنان لها ضد أوكرانيا. الأمر هذه المرة كان أكثر غرابة مما كنا نتخيله، ذلك أن روسيا لا تخسر فقط وسائل الراحة التي قدمتها الرأسمالية الغربية، جراء العقوبات الشديدة المفروضة عليها، وإنما كذلك بسبب إقدام السلطات في روسيا على مضاعفة إجراءاتها تجاه قمع أي تعبير عن المعارضة.
فيما يخص الأوكرانيين، تعني الحرب الجحيم على الأرض، فقد سقطت أرواح. أشاهد في رعب أصدقائي هناك يختبئون في الملاجئ، في الوقت الذي تعرضت المدارس والمستشفيات والمباني السكنية للدمار. وتواترت أنباء عن أن أبرياء قتلوا في الشارع أثناء محاولتهم الفرار إلى بر الأمان. إنها حرب قاسية وغير عادلة ومدمرة على نحو يصعب وصفه.
فيما يخص الروس، هناك خوف تجاه هذه الحملة العسكرية، التي ستؤدي حتماً إلى زيادة أعداد الضحايا المدنيين. وهناك أيضاً شعور بالعجز بسبب عدم القدرة على إيقافه، إضافة للشعور بالضيق بسبب انتماء المرء إلى هذا البلد.
وما لا يثير الدهشة أن روسيا قد تبدو في هوة. وقد أوقفت للأسف العديدُ من الشركات الأجنبية - العلامات التجارية للملابس وبطاقات الائتمان وشركات تصنيع السيارات وشركات التكنولوجيا والوجبات السريعة وسلاسل البيع بالتجزئة - نشاطاتها، الأمر الذي ترك أثره على كل جانب من جوانب الحياة. وتسببت عقوبات الغرب في عزل المدنيين الروس عن الاقتصاد العالمي.
في غضون ذلك برز قانون جديد يقضي بمعاقبة أي شخص ينشر أي شيء يعد “معلومات كاذبة” عن الحرب، بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً. ومع أن مثل هذه الحملة ليست بالأمر الجديد على الروس منذ الاتحاد السوفياتي، فإنها وصلت إلى الذروة، فاليوم أصبح وقوف المرء في الشارع مثلاً حاملاً زهرة أو لافتة فارغة كفيل بأن يسأل عنه.
وفي ظل هذه الظروف بسبب الرقابة والشائعات عن فرض الأحكام العرفية والدعاية التي لا هوادة فيها، يبدو الأمر كما لو أننا عدنا إلى عهد ستالين. لقد محيت روسيا التي كنت أعرفها، وما سيأتي بعد ذلك يبدو غامضاً.
عندما علمت أن سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” قد انضمت إلى القائمة الطويلة من الشركات الدولية التي تعلق عملياتها في روسيا، لم يسعني إلا التفكير في الزيارة الأولى لعائلتي إلى مطعم برغر المشترك. هل يمكن لأي شخص اصطف للحصول على أول ساندويتش برغر عام 1990 أن يتخيل أن روسيا الحديثة ستجد نفسها تنتهي إلى حيث بدأت؟
بالتأكيد، سنعيد تشكيل روسيا ببطء وصبر، تماماً مثل الجيل الذي سبقنا - لكن ليس، كما يقولون، قبل أن تنهار أولاً.
* مؤسسة “سوفييت فيجوالز”، وهو أرشيف عبر الإنترنت لصور تخص الاتحاد السوفياتي السابق
* خدمة “نيويورك تايمز”