الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "ن"... وأحلامنا التي فقدناها

"ن"... وأحلامنا التي فقدناها

04.08.2014
مرح البقاعي



الحياة
الاحد 3/8/2014
"ونحن نغادر مدينتنا الموصل مطرودين، للمرة الأولى في التاريخ، وقد أذلّنا حاملو راية "الإسلام الجديد"، لا بد لنا من أن نقدّم شكرنا لأهلنا فيها، أهلنا الذين كنّا نعتقد بأنهم سيحموننا كما كانوا يفعلون، وسيقفون بوجه عتاة مجرمي القرن الحادي والعشرين ويقولون لهم إن هؤلاء هم الأصلاء وهم الذين أسسوا هذه المدينة. كنا نطمئن النفس بأن لنا جاراً عزيزاً، وابن محلة شهماً، وإخواناً تبرز أخلاقهم يوم الشدة، لكننا خُذلنا ونحن نغادر، خُذلنا ونحن نسحب أجسادنا سحباً نحو المجهول، خُذلنا ونحن نترك كل تاريخنا وقبور آبائنا وأجدادنا ورموزنا وآثارنا وكل شيء عزيز علينا. وداعاً نقولها، لمحلات الساعة والجولاق والدندان وباب لكش وباب الجديد وباب الطوب، وداعاً لجامع النبي يونس والنبي شيت وجيمع الكبيغ، وداعاً للسرجخانه وسوق العتمي والقناطر وجسر العتيق وعبدو خوب، وداعاً لقصر المطران وكنيسة مسكنته وعين كبريت، وداعا لشارع الفاروق وشارع نينوى والدواسة، وداعاً لعبدالباسط أبو السندويج، وطرشي الشفاء وشارع النجفي، وداعاً أخوالي ابراهيم وميخائيل حداد اللذين امتدت لي الصحافة منهما... وداعاً، هكذا أخرجنا عتاة "داعش" القتلة من بيوتنا ومحلاتنا وعوجاتنا ومن مدينتنا مطرودين".
هذه صرخة انكسار مجتزأة من رسالة مطوّلة وصلت إلى الصديق سمير الصميدعي، أول سفير للعراق في واشنطن إثر سقوط نظام صدام حسين، شاركني إياها وأذن لي بنشرها. الرسالة موقّعة باسم ماجد عزيزة (الموصلي) قبل ساعات من مغادرته الموصل بعدما رفض دفع الجزية لجحافل قوى الظلام "داعش" بعدما كتبوا بالحبر الأحمر على جدران بيته الموصلي العريق حرف "ن"!
إنه التهجير القسريّ من الموصل، واحد من أبشع المشاهد العنفية للتمييز الديني في القرن الحادي والعشرين. وقد اقتصرت ردود الفعل الرسمية في العالم الغربي المسيحي على قبول اللجوء الإنساني لمسيحيي الموصل على الفور، وكأن تفريغ المنطقة من مسيحييها وأقلياتها الدينية جزء من مشروع مضمر يأتي مستتبِعاً للمشروع الداعشي في استقطاب متطرفي العالم لاستيعابهم في بقعة جغرافية واحدة، الأمر الذي سيساعد على تفريخ بؤر جهنمية متنقّلة تتصارع فيها قوى التطرّف، السنّي والشيعي، في اقتتال جاهلي لن يضع أوزاره حتى يفنى الطرفان وتفنى معهما بذور "الإرهاب الدولي" على حساب انهيار مشروع الدولة الوطنية الحديثة والديموقراطية في المنطقة.
لا أريد أن أتحدّث هنا عن العنف المرتبط بهذه القوى الظلامية وحسب، فهو يمارس على رؤوس الأشهاد وفي الساحات العامة، ودونما رادع ولا رقيب، من ذبح وسلخ وصلب ورجم، بل سأحاول استشراف أهداف هذه المجموعة البعيدة المدى التي ترسم مسارها الدموي. وفي غمرة البحث عن البذور الشيطانية الأولى لتنظيم "داعش"، ومشاربها، وأرضها الجهنمية التي نبتت فيها، أجد نفسي أدوّر في رأسي، وبحالة نادرة تبتعد عن طبيعتي في تحليل الوقائع، نظرية "المؤامرة" والاحتمالات العالية لارتباطها بتشكيل هذه المجموعة. فتجاهل ضرورة المسارعة في القضاء على هذا التنظيم الخبيث في مهده قبل استشرائه إلى جانب التغاضي الغامض الذي يتناقض مع مســـؤولية الدول الأجنبية المتابعة للحالة العسكرية بل الداعمة لهويات مختلفة من فصائلها المحليّة قبل أن يرتبط بدول الجوار والدول الإقليمية، إنما يرفع مستوى الشكوك، التي قد تقارب اليقين، بارتباط هذه المجموعة بخطط استخبارية دولية بعيدة المدى، فيما تنتفي أية قيمة ترتبط بالإسلام وتطبيق تعاليمه يحاول "داعش" أن يصبغها على مشروعه مع إيغاله في ممارساته الجاهلية.
هكذا يساهم "داعش" في عملية التفتيت المجتمعي في سورية والعراق، وهو التفتيت الأبلغ أثراً من التقسيم السياسي أو الجغرافي، محيلاً المنطقة بالتدريج إلى مستنقع للعنف تطفو على سطحه كانتونات متناحرة من أهل السنّة والشيعة لا يربطها سوى خيط الدم والانتقام المفتوح على المجهول، وهذا بينما تتعاظم دولتان إقليميتان هما الأقوى والأكثر تماسكاً: إيران واسرائيل.
ويمضي "داعش" إمعاناً في سياسة تفتيت النسيج المجتمعي مستهدفاً أقلية أخرى هي المرأة. وتنتمي المرأة في الشارع العربي إلى دائرة الأقليات ليس بالمرجعية العددية، فهي تشكل ما يقارب 60 في المئة من مجتمعها، بل بسبب تعرّضها المزمن للاضطهاد الجندري، اجتماعياً ودينياً، مما يسهّل ويشرعن استهدافها من جحافل الظلام التي تتقدّم في الخريطة السياسية للعراق وسورية بقوة الترهيب.
فإثر صلاة العشاء ليوم الخميس 17 تموز (يوليو)، وفي سوق شعبي لمدينة الطبقة بالجزيرة السوريّة، جُرّت امرأة عمرها 26 عاماً إلى حتفها بعد مثولها أمام محكمة "داعش" واتهامها بالزنى ورجمت بالحجارة حتى الموت. وفي اليوم التالي إثر صلاة العشاء أيضاً، الجمعة 18 تموز، وصلت سيارة محمّلة بالحجارة إلى ساحة قرب المعلب البلدي في مدينة الرقة حيث تجمّع عناصر "داعش"، وكان معظمهم من الأجانب، حول امرأة مقيّدة وساجدة على الأرض وانهالوا عليها رجماً، واستمروا في رجمها حتى بعدما زفرت النفس الأخير.
ليست هاتان الجريمتان المنكرتان سوى نقل حرفي عن أول سابقة رجم امرأة في العصر الحديث، بسبب شبهة بالزنى، حدثت في إيران في 1986 أثناء حكم الخميني، وذلك حين رجمت ثريا علناً، من زوجها وأولادها وكل عابر سبيل، بعدما وضعت في حفرة وطمر نصفها السفلي بالرمل وقيّدت يداها إلى ظهرها!
هذه الجريمة المشهودة إنما تؤكّد أن ملالي قم هم أول من شرّع وروّج ومارس هذا العنف قبل أن ينتشر عقائدياً في مجموعات التطرف المسلّحة الداعية "ظاهراً" إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية بحد السيف أو بترهيب التهجير.
قال لي سمير الصميدعي، وهو الذي اعتزل السياسة بطلب منه وجّهه إلى حكومة المالكي لما رآه استحالة في تحقيق أي تغيير ديموقراطي عادل في العراق، بعد أن انتهينا من قراءة رسالة صديقه الموصلي: أعظم ما فقدناه يا مرح هو أحلامنا!